بين عروبة الجامعة العربية وعروبة جماهير الأمة

1

 
بقلم : زياد حافظ
 
تزامن اجتماع وزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية بناء على طلب حكومة الرياض مع حدث ميداني مدوّ هو تحرير مدينة البوكمال من داعش ودعم القوّات الأميركية له وحدث سياسي هو قرار إقفال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن من قبل الحكومة الأميركية. والحدثان جعلا اجتماع وزراء الخارجية العرب من دون جدوى لما كان مطلوباً منه. والحدثان يشكّلان استكمالاً لمسيرتين مرتبطتين ومتناقضتين في آن واحد جوهرهما القضية الفلسطينية. والهدف المرتقب لاجتماع وزراء الخارجية العرب كان توجيه ضربة سياسية قاضية للأطراف المقاومة كلها والتي تقف في وجه ما يُسمّى بصفقة القرن أيّ تصفية القضية الفلسطينية. لكن الواقع الميداني ألغى مسبقاً الحدث السياسي المرتقب من اجتماع وزراء الخارجية العرب ومن قرار إقفال مكتب منظمة تحرير. والمعركة غير المعلنة داخل النظام الرسمي العربي هو بين مفهومين للعروبة.
 
فالفجوة باتت واضحة وكبيرة ولا يمكن ردمها بين ما نُسمّيه بـ «عروبة الجامعة العربية» وعروبة جماهير الأمة. فـ «عروبة» الجامعة العربية، أو بالأحرى «عروبة» الدول الخاطفة لقرارها. هي العروبة التي تتنكّر لتحرير فلسطين عبر المقاومة وتعتبرها إرهاباً، هي «العروبة» التي تشرعن الاحتلال الأميركي للعراق، هي «العروبة» التي تطلب من الأطلسي تدمير ليبيا، هي «العروبة» التي تغطّي المؤامرة الكونية على سورية، هي «العروبة» التي تتغاضى عن الإبادة الجماعية لشعب اليمن، هي «العروبة» التي لم تعتبر في يوم من الأيام الكيان الصهيوني عدواً لبعض الدول العربية كما عبّر عن ذلك بوضوح رئيس هيئة أركان جيش العدو لموقف «إيلاف» التابع والمرتبط بأجهزة المخابرات لحكومة الرياض من دون أن يصدر أيّ تكذيب من الحكومة المعنية!
 
في المقابل، فإنّ عروبة الجماهير العربية هي التي تتمسّك بخيار المقاومة، وهي التي تندّد بالاحتلالات المتعدّدة لأقطار عربية مباشرة أو عبر قواعد عسكرية تابعة للأطلسي. وهي العروبة التي تؤمن بوحدة الأمة، هي العروبة التي ترفض تعليق عضوية دولة مؤسّسة للجامعة من قبل دول حديثة الاستقلال نسبياً، هي العروبة التي تحرص على كلّ فرد من هذه الأمة وعلى كلّ شبر من أرضها، هي العروبة التي ترفض شتّى أنواع التطبيع مع الكيان، هي العروبة التي تعتبر العدوان على اليمن جريمة بحق الإنسانية، هي العروبة التي تدعم الحراك السلمي للشعب في البحرين، وهي العروبة التي ترفض خطف رئيس مجلس وزراء دولة مؤسّسة للجامعة وإملائه قراراً بالاستقالة من منصبه الذي أوصله إليه ممثلو شعبها.
 
عروبة هذه الجماهير تمثّلها هيئات شعبية كالمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي وتجمّع الهيئات الشعبية والمؤتمرات التي تنتج عن مبادرات لدعم قضايا الأمة واسترجاع الحقوق المسلوبة. هي عروبة تجسّدها مواقف ومبادرات لردم الهوّة بين أطراف متصارعة في الوطن العربي ولإيقاف الحروب فيه. هي عروبة المبادرات التي كسرت الحصار على العراق وعلى قطاع غزّة. هي عروبة الرافضين لتدمير سورية واليمن وليبيا. هي عروبة الذين يروّجون لثقافة الحوار والتخلّي عن ثقافة الإقصاء. هي عروبة تبني جسوراً بين مكوّنات الأمة وتهدم المتاريس التي تقام في وجهها. وهي عروبة أهلنا في الخليج العربي الذين عقدوا مؤتمراً شعبياً في الكويت لمناهضة التطبيع، هي عروبة غانم المرزوقي الذي انتفض ضدّ وجود الوفد البرلماني الصهيوني في بطرسبورغ في دورة مؤتمر الاتحاد العالمي للبرلمانيين.
 
واجتماع الجامعة العربية جاء وكأنه يريد الردّ على سلسلة المؤتمرات الشعبية التي عُقدت في دمشق وبيروت والكويت خلال الأيام والأسابيع الماضية والتي أكّدت على الثوابت التي عدّدناها أعلاه. لكن غياب عدد من وزراء الدول العربية بما فيهم وزير خارجية لبنان يسطّر رسالة أن ليس هناك من إجماع على ما تريده بعض دول الجزيرة العربية من العرب أجمعين. فالضغوط التي مورست على عدد من الدول «لتسميع الدرس» بما فيه مداخلة الأمين العام المخجلة أفقد مصداقية تلك الجامعة مرّة أخرى، الفاقدة تلك المصداقية بعد السطو على قرارها. والدليل على ذلك مسلسل قرارات الجامعة التي غطّت احتلال العراق، وضرب الأطلسي لليبيا، والعدوان الكوني على سورية، والعدوان العبثي والإجرامي على اليمن، ودعم القمع للشعب البحريني، وآخراً وليس أخيراً تصنيف المقاومة إرهاباً وهي التي دحرت العدو الصهيوني من أراضٍ عربية دون قيد أو شرط.
 
من المخجل أن يتكلّم أمين عام الجامعة العربية عن إرهاب المقاومة في لبنان، ومن المخجل أن نسمع كلاماً عالياً من بعض دول مجلس التعاون ضدّ دولة إقليمية جارة تربطها مع العرب علاقة التاريخ والموروث الديني والثقافي والتي تمسّكت بقضية فلسطين بعد أن تخلّت بعض هذه الدول عنها فاعتبرت ذلك التمسّك «تدخّلاً» في الشؤون الداخلية العربية، ولا نسمع كلمة واحدة عن تنديد بإبادة الشعب اليمني على أيدي تحالف يدّعي حماية العروبة، ولا كلمة على احتلال البحرين وقمع حراكه الشعبي السلمي، ولا كلمة عن جماعات التعصّب والغلوّ والتوحّش التي موّلتها هذه الدول وأشعلت فتنة مدمّرة بين مكوّنات الأمة والمسلمين. ولا حتى كلمة واحدة عن الممارسات العدوانية لحكومة تتغطّى بحراسة الحرمين الشريفين تجاه لبنان عبر احتجاز رئيس مجلس وزرائه واعتبار لبنان «معلناً للحرب» على تلك الحكومة. كما ليس هناك من كلمة ضدّ ممارسات قوّات العدو الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني المستمرة بسرقة الأراضي الفلسطينية وبناء المستعمرات لجحافل متعصّبة جاءت من خارج المنطقة واحتلّت الأرض العربية. فلا عجب أن تكون قرارات الجامعة العربية هزيلة ومخجلة ولا قيمة لها ولا أيّ تقدير لها أو اهتمام بها. فهي لا توازي الحبر والورق التي سُطّرت به وعليها.
 
قرارات جامعة الدول العربية توحّد من حيث لا تدري الجماهير العربية. فهي تذكّرها بأنّ ثوابت الأمة انتقلت من جامعة تخلّت عن الأمانة المُودعة لديها إلى الهيئات الشعبية التي تمثّل تطلّعات ومزاج الأمة. هذه القرارات تسقط شرعية الجامعة وتفقد قيمة تحرّكاتها ومواقفها. فالأمة سائرة في طريقها نحو تحقيق أهدافها في الوحدة والاستقلال والتحرير والتنمية والعدالة الاجتماعية والتجدّد الحضاري بينما أعداؤها وأتباعهم ذاهبون إلى مزبلة التاريخ.

التعليقات معطلة.