يدرك كثير من المصريين أن ثمة نزاعات مسلحة تحيط ببلدهم من كل جانب، شرقاً في قطاع غزة، وغرباً في ليبيا، وجنوباً في السودان، لكنّ كثيرين منهم ربما لا يعرفون بوضوح مدى تأثير تلك الصراعات، إلى جانب تحديات إقليمية ودولية أخرى، على اقتصاد بلدهم وخططه التنموية، ومن ثم على تكاليف معيشتهم التي باتت تشهد ارتفاعات غير مسبوقة.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، ارتفع سعر الدولار الأميركي في السوق الموازية (السوق السوداء) لمستويات “جنونية”، إلى حد بات يتجاوز ضعف مثيله الرسمي في البنوك وشركات الصرافة، إذ بلغ سعر الدولار الواحد في السوق الموازية قرابة 66 جنيهاً مصرياً، أما في السوق الرسمية فيبلغ نحو 31 جنيهاً. وللسوق الموازية تأثير كبير على أسعار السلع والخدمات، حسبما يؤكد محللون وخبراء اقتصاديون.
وقد أشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أخيراً، إلى تأثر الاقتصاد المصري بتلك النزاعات والتحديات المتزايدة، وجاء ذلك خلال مشاركته في احتفالات عيد الشرطة المصرية، والتي تتواكب أيضاً مع احتفالات ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011.
وقال السيسي في كلمته: “إن تعقيد الظروف الدولية والإقليمية، فرض علينا في مصر تحديات اقتصادية كبيرة، لم نكن لنصمد أمامها، إلا بما حققته إرادة شعب مصر العظيم التي شيدت خلال السنوات القليلة الماضية أساساً متيناً يعيننا – بإذن الله – على عبور التحديات الراهنة”.
ومن أبرز الأزمات التي تتضح تأثيراتها مباشرة على موارد القاهرة من الدولار، في الوقت الراهن، التوترات التي يشهدها البحر الأحمر بسبب استهداف الحوثيين في اليمن للسفن المارة عبر مضيق باب المندب، ما أدى إلى انخفاض إيرادات قناة السويس بنحو 44 بالمئة خلال شهر كانون الثاني (يناير) 2024، وفق تصريحات لرئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع نشرها موقع “الشرق – بلومبرغ”، الخميس.
لكن معظم النزاعات والتحديات الأخرى، ربما لا تحظى بالقدر نفسه من الوضوح في تأثيرها على الاقتصاد المصري، مثل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وكذلك ما تقوم به إثيوبيا، سواء في أزمة سد النهضة، أو مساعيها للسيطرة على ميناء بربرة الصومالي المطل على البحر الأحمر، وغير ذلك من التهديدات المحتملة والقائمة.
تجنب انقلاب التهديد إلى عدوان
يقول رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق بالقوات المسلحة المصرية اللواء دكتور نصر سالم لـ”النهار العربي”: “الأمر لا يتعلق بانخفاض الإيرادات فحسب، ولكن أيضاً بالنفقات الضخمة، فعلى سبيل المثال، أنفقت مصر قرابة 120 مليار جنيه مصري لمواجهة الإرهاب (خلال السنوات الماضية)”.
ويضيف اللواء سالم الذي يعمل، حالياً، أستاذاً بأكاديمية ناصر العسكرية العليا: “مثال آخر، الاضطرابات التي يشهدها البحر الأحمر، لا تقتصر فقط على تراجع إيرادات قناة السويس. لو تمكنت إثيوبيا من فتح منفذ لها على البحر الأحمر، من خلال ميناء بربرة الصومالي، الذي حاولت السيطرة عليه باتفاق غير شرعي مع إقليم أرض الصومال، فإن هذا يشكل تهديداً للملاحة في البحر الأحمر، وللتعامل مع هذا التهديد تكاليفه”.
ويشير رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق إلى أن “أزمة قطاع غزة أثرت كذلك على مصر واقتصادها بنسبة كبيرة، فمن جانب تتحمل القاهرة من مواردها نفقات 85 بالمئة من المساعدات الإنسانية التي يتم إرسالها إلى القطاع، هذا بجانب تكلفة القوات التي تقوم بتأمين سيناء في ظل الأزمة الراهنة”.نفقات ضخمة
وتطرق الخبير العسكري إلى مجموعة من النزاعات والتحديات التي تستهلك نفقات ضخمة من موارد المصريين، مثل تأمين الحدود الغربية مع ليبيا، والجنوبية مع السودان، والعديد من الملفات الأخرى مثل سد النهضة، والتي تستوجب تعامل الحكومة المصرية معها كي لا يتحول التهديد إلى عدوان، ويقول إن “الأموال التي تستهلكها تلك الأنشطة الإضافية، تأتي على حساب بنود أخرى، مثل مشروعات التنمية”.
ويرى اللواء سالم أن “هذا ما يريده الأعداء، فهم يعملون على سحبك من الخلف كلما حاولت أن تتقدم، حتى يعرقلوا حركتك، ومن ثم هذا يتطلب التعامل بطرق مختلفة، ولكل طريقة تكاليفها المالية”.
ويخلص الخبير العسكري من ذلك إلى أن “تراجع الإيرادات يضغط على الاقتصاد المصري، وكذلك تفعل النفقات الهائلة التي يتم إنفاقها للحفاظ على أمن الوطن واستقراره، وسط بحر من النزاعات الملتهبة التي تحيط بنا من كل اتجاه، ومن ثم يؤثر هذا على مستويات معيشة المواطنين… لكن، بالرغم من ثقل هذا الضغط الكبير، علينا أن نتحمل، لأن البديل مرير للغاية”.
انعكاسات ودائرة مفرغة
تتفق الخبيرة الاقتصادية سمر عادل مع ما ذهب إليه اللواء سالم، بشأن تأثير الصراعات المحيطة بمصر على اقتصادها وخططها التنموية، وتقول في حديثها لـ”النهار العربي”: “تتمتع مصر بموقع مهم جيواستراتيجياً، وجيوسياسياً، وبينما يكسبها هذا الموقع بعض المزايا في أوقات السلم، إلا أنه في أوقات الأزمات يجعلها تعاني المشكلات والتحديات”.
وتضيف الخبيرة أن “ما يحدث في البحر الأحمر أثر كثيراً على مدخولات مصر الدولارية، وليس هذا فحسب، بل أثر كذلك على سلاسل الإمداد العالمية، فالسفن تضطر إلى اتخاذ طريق أطول كبديل للمرور من البحر الأحمر وقناة السويس، ومن ثم تتحمل تكلفة أكبر لنقل السلع التي تحملها، ما يرفع أسعار تلك السلع، ويثير أزمة عالمية، تنعكس مرة أخرى على مصر”.
تراجعت إيرادات قناة السويس بأكثر من 44 بالمئة خلال شهر كانون الثاني (يناير) 2024
وتشير عادل إلى تأثير آخر لأزمة غزة، وتقول إن “هذا الوضع الضاغط يرفع معدلات التضخم، وسوف ترتفع معدلات البطالة أيضاً، لأن دعوات المقاطعة ضد الشركات المتهمة بدعم إسرائيل، قد تدفع بعض تلك الشركات الموجودة في مصر، وربما مورديها أيضاً، إلى تسريح بعض العمالة الموجودة لديها، أو تجبرها على الإغلاق التام، وتسريح كل من لديها، وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة معدلات الفقر”.
وتتوقع الخبيرة أن “تشهد مصر زيادة في تشديد السياسات النقدية، خلال الفترة المقبلة، لكن من المهم أن يكون لدينا سياسة مالية تتلاءم مع السياسة النقدية، لأننا للأسف نرى أن كل سياسة منهما تعمل منفصلة”.
وترصد عادل تأثيراً آخر، وتقول: “إلى جانب هذا كله، فإن هذه الأوضاع المشتعلة والأزمات المحيطة، قد تؤثر بقدر كبير على الخطط الطموحة التي كانت تنتهجها مصر، في ما يخص مشروعات الغاز والتحول إلى مركز إقليمي للطاقة، وكذلك التحول إلى مركز لوجستي إقليمي”.
ومن التأثيرات التي تراها الخبيرة الاقتصادية، تأثر الميزان التجاري بالسلب، أي زيادة الواردات على الصادرات، وتصف الوضع كأنه دائرة مفرغة دخل فيها المصريون، ينعكس بداخلها تأثير جانب على جانب آخر، فيرتد هذا الانعكاس ليؤثر مجدداً على جانب آخر من الاقتصاد، وتقول: “سوف تتراجع حصيلتنا من الدولار تراجعاً أكبر بسبب المتغيرات السالفة الذكر، ومن ثم يكون لهذا تأثيره الضاغط على العملة المحلية، وتالياً على أسعار السلع والخدمات، مجدداً”.
قناة السويس ومصالح أخرى
يشير كتاب ومحللون مصريون إلى الدور الذي تلعبه أذرع إيران في المنطقة، ويرون أن طهران تعمل على إشعال الأوضاع في الشرق الأوسط لضرب “أكثر من عصفور” بحجر واحد، مستغلة القضية الفلسطينية، ووجود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل، لتحقيق مصالحها، دون الدخول في صدام مباشر مع القوى العالمية والإقليمية.
ويؤكد مراقبون أنه من الجلي أن ما يفعله الحوثيون المدعومون من إيران، بدأ يؤثر بصورة واضحة على عدد السفن التي تمر من قناة السويس، ومن ثم على موارد مصر من الدولار، وهي موارد بالغة الأهمية في ظل الأوضاع الراهنة. ويبدو هذا متناقضاً مع الحديث الذي تردد على مستويات رسمية، بشأن تقارب محتمل بين القاهرة وطهران، ومساع لتطبيع العلاقات بين البلدين.
ويقول الباحث في الشأن الإيراني أحمد فاروق لـ”النهار العربي”: “تفصل إيران دائماً بين ملفاتها، بمعنى أنها تفصل بين علاقاتها مع مصر، والدور الذي يلعبه الحوثيون. السيطرة على الحوثيين قد تكون في مرحلة متقدمة من المفاوضات بين القاهرة وطهران، لكن في كل الأحوال لن تعترف إيران بسيطرتها الكاملة عليهم”.
ويضيف: “قد تقول طهران إنها سوف تستخدم علاقاتها مع الجماعة لتقليل أضرارها على مصر، إلا أنها في نهاية الأمر قد ترى أن المتضرر الرئيسي هو إسرائيل، وليس مصر، بل ربما تمارس المزيد من الضغط، وتستهدف السفن المتجهة لإسرائيل (حسبما تقول)”.
ثمة تأثير لأذرع إيران على المصالح المصرية في مناطق أخرى، وعن هذا يقول الباحث: “ما ذكرناه بالنسبة للتصعيد في البحر الأحمر، قد يكون هو نفسه بالنسبة للتصعيد الحادث في العراق، والذي له تأثير على الاستثمارات المصرية هناك، وكذلك لو كان لمصر مصالح في لبنان وسوريا. هذا الوضع يستلزم وجود خط ساخن للتواصل بين مصر وإيران”.
ويرى فاروق أن التأثير الذي يقوم به الحوثيون على المصالح المصرية في البحر الأحمر، “قد يساهم في تسريع وتيرة التقارب بين القاهرة وطهران”، لافتاً إلى أن “كلا الطرفين له مخاوفه وتوجساته من الطرف الآخر، لكن قد تستدعي مصالحهما التنسيق في ما بينهما”.