تاريخ أفلام وشخصيات وصراعات وحروب… والفاشية والنازية عبرتا من أبوابه

1

هوفيك حبشيان   

أول عرض من مهرجان البندقية السينمائي 1932 (خدمة المهرجان)

مهرجان البندقية 30 أغسطس (آب) – التاسع من سبتمبر (أيلول)، المعروف باسم “معرض الفن السينمائي”، يحتفي هذا العام بدورته الـ80. “ثمانون سنة في خدمة الفن السابع صنعت لحظات بصرية صمدت في الذاكرة الجماعية. من كان يتوقع لهذا الحدث الذي ولد في عهد عاشق السينما موسوليني الذي كان يعتبرها “أمضى الأسلحة”، أن يستمر كل هذا الزمن؟ منذ 1932، تاريخ انعقاد الدورة الأولى، إلى اليوم، ثمة 80 دورة من تظاهرة عرضت فيها مئات الأفلام ومشى على سجادتها الحمراء آلاف النجوم ودخل إلى صالاتها ملايين المشاهدين. وعلى رغم اقتراب “الموسترا” من الاحتفاء بمئويته، فإنه لا يزال رشيقاً وعلى قدر من الحيوية والاستعداد لمواكبة كل مستجد ومثير في عالم السينما.

النحات أنطونيو مارياني والكونت جوسيبي فولبي دي ميسوراتا ولوتشيانو ديه فيو، هؤلاء خطرت في بالهم ذات يوم فكرة تأسيس فرع سينمائي تابع لـ”بينالي البندقية” الذي كان ولا يزال يضم مختلف الفنون، من الرسم إلى الموسيقى والرقص والهندسة والمسرح والفن المعاصر. كانت السينما التي لم يمر في ذلك الحين أكثر من ثلاثة عقود على ولادتها، تحتاج إلى احتفالية تتجه إليها الأنظار، والحكومة الفاشية التي كانت تحكم إيطاليا آنذاك دعمت مشروع تنظيم هذا الحدث في جزيرة ليدو الفينيسية، بقعة الأرض التي تبعد بضعة كيلومترات عن ساحة سان ماركو الشهيرة وتطل على بحر الأدرياتيك.

thumbnail_3.jpg

“دكتور جيكل ومستر هايد” أول فيلم عرض في البندقية (خدمة المهرجان)

بعد دورة عام 1934، قرر القائمون على المهرجان جعله سنوياً، خلافاً للبينالي الذي يعقد مرة كل سنتين. لم تكن هناك جوائز ولجان تحكيم كما هي الصيغة التي نعرفها اليوم، بل مجرد عرض أفلام على نحو بدائي. بدأت الأفلام تنافس بعضها بعضاً بدءاً من الدورة الثانية التي حضرها 300 صحافي من العالم، ولكن بلا لجان تحكيم (التي أدخلت في عام 1936)، بل كان يختار الفائزون بناء على استشارات. “دكتور جيكل ومستر هايد” للأميركي روبير ماموليان هو أول فيلم عرض في البندقية. في هذه الفترة وحتى نهاية الحرب، كانت الأفلام السوفياتية ممنوعة منعاً باتاً. 

جرأة ومناكفات

يحكى أن المناكفات كانت قوية منذ البدء بين الإدارة والسلطات، بسبب مضمون بعض الأفلام الجريئة التي كانت تغضب الفاتيكان. يصعب على السياسة والدين التعايش مع الثقافة بسلام ووئام. الأمثلة لا تحصى في هذا المجال، أما في حال البندقية فيمكن القول، إن الضغوط استمرت حتى منتصف الأربعينيات. فالسلطات في تلك السنوات، كانت تستقبل وزير الدعاية النازية جوزف غوبلز بالأحضان وتمنع الممثلة الأميركية غريتا غاربو بسبب انتقادها للنظام. والصراعات الداخلية كانت محتدمة دائماً: في عام 1939، وعلى رغم اندلاع الحرب، انطلقت الدورة، لكن الكونت فولبي رفض أن يفتتح المهرجان في حضور غوبلز. بعد الحرب، عاد المهرجان، إلا أنه واجه التحديات المتعلقة بدخول العالم في الحرب الباردة.

2.jpg

بوستر الدورة الأولى للمهرجان 1932 (خدمة المهرجان)

ولم يكن اندلاع ثورة 1968 التي عصفت برياحها على البينالي، هدية للمهرجان رغم الدور الذي لعبته في تطويره. مع هذه الثورة، راح الفنانون يعيدون النظر في الماضي الفاشي للبينالي، الذي كثيراً ما وظفه موسوليني لمصلحته. فالجائزة الكبرى للمهرجان كانت حتى عام 1942 تدعى “كأس موسوليني”، ولم تصبح “الأسد الذهبي” إلا في عام 1954، علماً أن الأسد هو رمز مدينة البندقية.

يحاجج البعض أن المهرجان لم يفرض نفسه فعلياً إلا في عام 1979، بعد سنتين كان غاب فيهما، وهو العام الذي عادت فيه جائزة “الأسد الذهبي” بعد 10 أعوام غياباً كنتيجة حتمية للثورة. المخرج كارلو ليزاني تسلم المهام وبدأ في تحديث المهرجان من الألف إلى الياء، بمساعدة نخبة من المثقفين من مثل ألبرتو مورافيا وغيره. 

عبر العقود، كبار السينمائيين اقتنصوا “أسد البندقية”: كارل دراير، روبرتو روسيلليني، ميكال أنجلو أنطونيوني، لوكينو فيسكونتي، لويس بونويل، جان لوك غودار، أندره تاركوفسكي، لوي مال، آلان رينه، جون كاسافيتس، وعدد من الذين أصبحت أفلامهم اليوم من الكلاسيكيات. 

مكان وتاريخ

4.jpg

من فيلم “أوليمبيا” الفائز بـ”كأس موسليني” (خدمة المهرجان)

كل الأماكن التي تحتضننا في البندقية أو تلك التي تؤوينا طوال 12 يوماً، تضرب جذورها في التاريخ. ولا بد من ذكر قصر “الكازينو” العريق الذي يقع على يمين قصر السينما، الذي تطلب فقط ثمانية أشهر لتشييده في عام 1938. قبل أن يتحول مع السنوات إلى مبنى يؤوي صالات سينما وقاعة مؤتمرات ومكاتب لفريق عمل المهرجان ومقراً للصحافيين… افتتح “الكازينو” كما هو واضح من اسمه، كمكان للقمار، وكان موصولاً عبر ممرات تحت الأرض بقصر المهرجان وفندق الإكسلسيور الكبير الذي كان افتتح أبوابه في مطلع القرن الماضي، هذا الفندق هو الآخر شيد في زمن قياسي (سنة ونصف السنة) بفضل تعنت مخططه نيكولو سبادا، ويقال إن ثلاثة آلاف شخص حضر افتتاحه. أما الدورة الأولى من المهرجان فعقدت على تيراس هذا الفندق الذي تبلغ مساحته سبعة آلاف متر مربع، وإلى اليوم لا يزال هذا التيراس ملتقى يجمع رواد المهرجان بعضهم ببعض. صفقات ولقاءات ومقابلات، إنه المكان لعديد من الشؤون، حيث يمتزج المهني بالترفيهي، هذا كله تحت شمس فينيسيا الحارقة رغم انعقاد الحدث في أواخر الصيف. أما إذا هبت رياح الأدرياتيك وسلمت الغيوم مداها، فتلك قصة أخرى، إذ يتحول التيراس والشاطئ الذي يطل عليه مكاناً مهجوراً وكئيباً في ساعات قليلة. ولهذا المشهد سحره الخاص أيضاً.

thumbnail_6.jpg

ألبيرتو باربيرا المدير الحالي للمهرجان (خدمة المهرجان)

عندما تأسس الـ”موسترا” على بقعة أرض عائمة، لم تكن المهرجانات السينمائية التي تعتز بتاريخها اليوم، ويبلغ عددها المئات، قد ولدت بعد. السينما نفسها كانت بدأت تنطق للتو، وكل هذه المنظومة المهرجانية التي أضحت واقعاً اليوم، كانت ضرباً من الخيال. أما مهرجان “كان”، هذا “العدو اللدود”، فمدين للبندقية بالكثير. ومن يعرف، لولاه لما ولد ربما! ذلك أن تأسيس المهرجان الفرنسي العريق في 1939، لم يكن إلا رد فعل سياسياً على تأسيس البندقية، خصوصاً بعدما قامت إدارة الأخير العاملة آنذاك تحت تأثير الحكومتين الألمانية (النازية) والإيطالية (الفاشية)، بمنح الجائزة الكبرى لفيلمين، هما “أوليمبيا” لليني رييفنشتال (المخرجة المحسوبة على النازيين)، وشريط بروباغاندي آخر يقال إنه أشرف على إنجازه ابن موسوليني. نتيجة هذا، خطر في بال المؤرخ والناقد فيليب إيرلانجيه أن يؤسس مهرجان كان بهدف المنافسة. فكان ما كان، والتاريخ أدرى بالتجاذبات الحاصلة بينهما منذ نحو ثمانية عقود!

اقرأ المزيد

في المرتبة الأولى

لكن، رغم أن الـ”موسترا” هو الأبعد زمنياً بين سائر المهرجانات في العالم ومؤسس فكرة التظاهرة السينمائية في الأصل، فهو لا يحتل اليوم المرتبة الأولى لا حضوراً ولا قيمة ولا تأثيراً، في وجود مهرجان “كان”.

والأرجح أن امتداده التاريخي وعمقه الثقافي ودوره الريادي يخوله أن يأتي بعد كان مباشرة، مع التذكير أن المهرجانين هما الأكثر استفادة من الديكور الخلاب والخلفية الجمالية اللذين يعقدان فيهما، حد أنه يستحيل فصلهما عن بيئتهما الجغرافية.

7.jpg

البوستر الجديد للمهرجان في دورته الـ 80 (خدمة المهرجان)

أما “أوتيل ديه بان”، هذا المكان الأسطوري الذي ارتبط بالمهرجأن ارتباطاً وثيقاً، فلا يمكن تجاهل رمزيته. يعود تاريخ تشييده لعام 1900، وخلده لوكينو فيسكونتي في رائعته “موت في البندقية” المقتبس من رواية توماس مان. من يمر أمام “أوتيل ديه بان” اليوم، المقفل منذ سنوات عدة، وهو فارغ الظن والبال، سيجد نفسه أمام كم من الذكريات الموجعة: قبل نحو عقد فقط، كان تيراس هذا الفندق محجاً للمشاهير.

تتفاعل المهرجانات سلباً أو إيجاباً مع الأماكن التي تعقد فيها، وتتغير مع التغييرات الجغرافية والظروف الاقتصادية التي تصبح تحت رحمتها. ففي مطلع العقد الماضي، بدأت تتغير ملامح الـ”كازينو” الذي لا يزال منتصباً كواحد من رموز الحقبة الفاشية. السبب خلف هذه الفوضى العمرانية التي تذكر بمشاريع المقاولين في بلدان نامية: تشييد قصر جديد مقابل القصر القديم، كان من المفترض أن يكون المقر المنتظر المستحدث بأهم التقنيات. الدورة الـ68 كانت الموعد الرسمي لتدشين المكان، تزامناً مع الذكرى الـ150 لتوحيد إيطاليا، بيد أن العثور على مادة الأميانت في أرض الورشة غير مخططاتهم تماماً. 30 مليون دولار أنفقت هدراً من أصل 100 مليون دولار كان مخصصاً لمشروع اعتبره كثيرون من الأعمال التوسيعية التي تضمن استمرار المهرجان وتقدمه.

شكل تولي ماركو موللر الرئاسة الفنية بين 2004 و2011، منعطفاً في مسار الـ”موسترا”، وكذلك في مسار هذا المدير السابق لمهرجان لوكارنو السينمائي (سويسرا). قدومه إلى البندقية أعطاه زخماً، خصوصاً في ما يتعلق بحضور السينما الآسيوية، وعند مغادرته كان هناك عشرات الأسود الذين يراقبون الداخل إلى البندقية والخارج منها، منتظرين تسلم كلمة السر منه قبل رحيله، من أجل أن يحافظ المهرجان على حلته المتجددة منذ بعض الوقت.

منذ تسلم الناقد الإيطالي ألبرتو باربيرا مهامه في عام 2012، تغيرت الأشياء نحو الأفضل، تزامناً مع التحديثات التي شهدها المهرجان في واجهته الأمامية وفي كل الأماكن المحيطة بقصري السينما و”الكازينو”، لتصبح لائقة بحدث من هذا المستوى. نسب لباربيرا تحويل المهرجان منصة للأفلام الأميركية تمهيداً لموسم الـ”أوسكار”. فعندما تسلم، ونتيجة لسياسة ماركو موللر في دعم سينمات أقل حضوراً، كان الأميركيون قد هاجروا البندقية مفضلين عليه تورونتو الذي كان أقل كلفة. واجه مهرجان البندقية في ذلك الحين خطر ان يصبح مهرجاناً ثانوياً، لكن زيارات باربيرا المتكررة إلى هوليوود بدأت تعيد المياه إلى مجاريها، وفي العام التالي لتسلم مهمته افتتح المهرجان بـ”جاذبية” لألفونسو كوارون، قبل أن تكر سبحة أفلام أميركية نالت الـ”أوسكار” بعد افتتاح عروضها في البندقية، مثل “سبوتلايت” و”لالا لاند” و”شكل المياه” و”جوكر”. وهكذا استطاع باربيرا إنقاذ أعرق المهرجانات من السقوط في الهامش.

التعليقات معطلة.