الإنسان في سعي دائم إلى السعادة. لم أسمع يوماً أحداً يبحث عن الحزن، فالحزن آتٍ لا محالة، ولا مفرّ من الموت ولا من الفقد. لكنّ القوة الحقيقية تكمن في اعتناق فلسفة السعادة، رغم الأحزان التي تلوح في الأفق والتوتر اليومي الذي ينخر العظام والعقل معاً.
في السطور الآتية، يتناول إختصاصيو الصحة النفسية أبرز أنماط التفكير والسلوكيات التي تؤثر في سعادتنا.
الخجل والشعور بالذنب والقلق
الخجل، والشعور بالذنب، والقلق من أبرز العوامل التي تعوق السعادة، لأنها تجعل الإنسان أسير الماضي أو المستقبل، وهذا يعوق إحساسه بالرضا ويمنعه من “الحضور في الحاضر”. توصي تاميكا لويس، مؤسسة مركز العلاج النفسي في كاليفورنيا ومديرته الإكلينيكية، بممارسة تقنية “هووبونوبونو” كحل لهذه المشكلة. وهذه تقنية تتضمن أربع عبارات تُرددها لنفسك: “أنا آسف، أرجوك سامحني، شكراً لك، أنا أحبك”. إنها عبارات تعالج الشعور بالذنب والعار، وتُعزز حبّ الذات، وقد يكون مفيداً أن يرددها الإنسان حين ينظر إلى وجهه في المرآة.
التخلف عن المبادرة
يشير بعض المعالجين النفسيين إلى أن عدداً كبيراً من مراجعيهم لا يبادرون نحو أنشطة يحبونها ولا يتبعون شغفاً يمكن أن يجعلهم سعداء، ويبقى بعضهم عالقاً في علاقات أو مهن غير مُرضية. ربما يكون التسويف أحد الأسباب، إضافة إلى الخوف والقلق. إلا أن بعضاً آخر يتبع هذه السلوكيات باعتبارها طريقة لتحويل التركيز عن أنفسهم.
ربما يخيف القيام بذلك كثيراً من الناس بسبب المخاطر التي ينطوي عليها، لذا مهم أن يفهم الإنسان الآتي: “بغض النظر عن المسار الذي يسلكه، فإنه سيرتكب الأخطاء. فإن كان يتجنب اتخاذ أي قرار لأنه يخشى الإخفاق، فذلك مرادف للشلل”، وفقاً للمعالجة النفسية صدف صديقي، التي تُشجع على المبادرة بخطوات صغيرة قد لا توفر إشباعاً فورياً كما تفعل الخطوات الكبيرة، إلا أن التغيير الفعلي يبدأ بتحولات صغيرة.
مقارنة النفس بالآخر
يمكن التفكير المقارن أن يسلب الإنسان سعادته، وهذا يظهر بوضوح حين يتصفح وسائل التواصل الاجتماعي فيُشاهد شخصاً يبدو أنه يملك كل شيء. حتى لو لم يعبر الإنسان عن رغبته أو تفكيره بـ”أريد هذا” أو “أتمنى لو كان لدي هذا”، فمجرد رؤية ما هو مختلف قد يدفعه إلى مقارنة نفسه بالآخرين، وفقاً للإختصاصية الاجتماعية السريرية ستيفاني داهلبيرغ. ولتجنب هذه المقارنة، ربما الأفضل أن يخفف من متابعة التواصل الاجتماعي. وبدلاً من فتح “إنستغرام” أو “فيسبوك” فور استيقاظه من النوم، فليحاول فتح تطبيق الملاحظات وكتابة خمسة أشياء يشعر بالامتنان لوجودها.
تقول إختصاصية علم النفس شافون مور-لوبان: “قد يصعب أن يشعر الإنسان بالرضا عن حياته عندما يقارنها بحياة الآخرين، الذين يظهرون الجانب الأفضل فقط من حياتهم. إننا لا ندرك اللحظات الصعبة التي يمر بها الآخرون”.
وثمة جانب آخر يتماشى مع التفكير المقارن: التوقعات، كترديد عبارات مثل: “كان ينبغي أن أغسل الملابس اليوم” أو “كان علي أن أكون أكثر تقدماً في حياتي المهنية الآن”. هذه العبارات تُخرجه من “اللحظة الحالية”، وتشتت انتباهه عن التقدير الفعلي للحظة الراهنة، كما تقول داهلبيرغ.
الافتقار إلى صلة قوية مع النفس
“إن غياب علاقة قوية بين الإنسان ونفسه تضر بسعادته، ويظهر ذلك باعتماده على الآخرين لتحديد قيمته”، كما تقول صديقي. فمن لا يعرف قيمته الشخصية وحدوده ونقاط قوته، يجد صعوبة في تحديد ما يُرضيه، وربما يشعر حينها بالفراغ. تشجع صديقي على فهم الذات وتقبّل العيوب، من دون أن يعني ذلك غض النظر عنها، “فعندما تكون للمرء علاقة أقوى مع نفسه، سيتمكن من معرفة ما يحتاجه لملء النصف الفارغ من الكوب”.

تجاهل المشكلات العميقة
قد يصعب على المرء أن يكون صادقاً وضعيفاً في مجتمع يشجع عقلية “النصف الممتلئ من الكوب”. مع ذلك، عندما يتجاهل المشكلات العميقة، فإنه يضرّ بسعادته، هذا ينطبق خصوصاً على الصدمات النفسية، كما تشير مور-لوبان، “لأنها منتشرة جداً في مجتمعنا بطرق مختلفة، سواء كانت صدمات ناتجة من علاقاتنا أم من تجاربنا مع أسرنا وطفولتنا، أم صدمات عرقية، فأمور الحياة الصعبة التي تطغى على قدرتنا على التأقلم لفترة معينة تلتصق بنا”. ومهم أن يتعامل الإنسان مع هذه الصدمات النفسية كي يحقق سعادةً يستحقها، فإدراكه التجارب التي مر بها، ولو أتت سلبية، جزء أساسي من السبيل إلى السعادة. وتقول صديقي: “صعب على البعض أن يشعر بالسعادة بسبب مشكلات صحية عقلية كامنة تحول دون إحساسه بالسعادة البيولوجية، كالاكتئاب واضطراب المزاج. حينها، ضروري اتخاذ إجراءات إضافية، مثل تغيير نمط الحياة أو تناول الأدوية أو الحصول على رأي طبي متخصص”.
العزلة
العزلة مصدر رئيسي للتعاسة، وقد تؤدي إلى الاكتئاب. أصبح شائعاً جداً أن يقضي المرء أياماً من دون التواصل مع أحد، وهذا يساهم في شعوره بالوحدة. توصي لويس بالاتصال الدائم بأفراد العائلة، أو دعوة صديق أو جار الى تناول الشاي مثلاً، أو حتى ترتيب لقاء مع زميل في العمل لتناول العشاء.
يربط بعضهم السعادة بأمور دينية، بينما يرى آخرون أنها تتعلق بحالة عاطفية أو مهنية. لكن ربط السعادة بشيء معين يغلق الباب أمامها ويفتح باب المقامرة، فتختفي السعادة بخسارة الرهان على أي شيء. لا بأس بالسعي إلى السعادة، لكن الخطأ هو أن نعتقد أن الحياة أفراحٌ فحسب. على الإنسان أن يتعلم كيف يحتفل بحزنه، كما يحتفل بسعادته.