د. أحمد عبد الرزاق شكارة
ستعقد في الأيام المقبلة سلسلة من المباحثات أو النقاشات التمهيدية بين الإدارة الاميركية والعراق من أجل بناء مسار تفاوضي جديد للعلاقات الجيوستراتيجية والاقتصادية الثنائية بين واشنطن وبغداد. علما بإن مثل هذا الاتفاق لن يكون بعيداً عن محيط القلق ، التوتر و نشوب الأزمات آخرها إختراقات داعش في شرقي وغربي وشمالي البلاد مضافاً لها تداعيات جائحة كورونا وإنعكاساتها الخطيرة على دول المنطقة .
حوار ونقاش قد يتطور لاحقاً لمرحلة تفاوض هدفها التوصل مستقبلاً إلى إتفاق ثنائي مشترك بين البلدين يتمحور حول صيغة معدلة أو جديدة تغطي : الاتفاق المشترك لحالة القوات The Joint Status of Forces Agreement وأتفاق الإطار الستراتيجي لعلاقات الصداقة والتعاون بين العراق والولايات المتحدة الاميركية Strategic Framework Agreement for a Relationship of Friendship and Cooperation between US and Republic of Iraq. . مضافاً لما تقدم توفر علاقات مهمة توجت في عهد حكومة الدكتور حيدر العبادي في عام 2014 مع الطرف الاميركي في إطار تشكل قوات التحالف الدولي تحت زعامة الولايات المتحدة الاميركية بهدف مواجهة الارهاب الداعشي الذي إخترق سيادة العراق الوطنية مراراً حتى عقب الانتصار الكبير عليه في عام 2018. داعش مازالت تمثل خطراً لابد من استئصاله كلياً وهذا ما تعمد إليه قوات التحالف حالياً بالاشتراك مع القوات العسكرية العراقية وقوات الحشد الشعبي في إطار معارك مايعرف ب”نصر السيادة” في غرب العراق.
السؤال المبدئي من المنظور الستراتيجي العراقي : هل العراق عملياً على مستوى من التحدي التفاوضي المهني عال المستوى مع الولايات المتحدة الاميركية ، أم إن العراق بحاجة للمزيد من التأني والاستعداد الكاف قبل أن يقدم على مثل هذه الخطوة الستراتيجية . كي يتحقق حوار مجد ومن ثم تفاوض مثمر لابد من توفر مايلي:
أولاً نظرة جيوستراتيجية شاملة شفافة واقعية للتفاوض تتضمن إنعكاسات وتداعيات متباينة للنظام الوطني ، الإقليمي والعالمي مابعد كورونا.
ثانياً : الإرادة السياسية الفاعلة ، الوازنة والحاسمة لإقرار القضايا المشروعة التي تؤكد وحدة الأراضي العراقية وأهمية إنتعاش السيادة الوطنية المستدامة للعراق.
ثالثا : مزيداً من الاهتمام والمتابعة لطبيعة المناخ المواتي للتفاوض تاسيساً لموقف عراقي متجانس “نسبياً” ومستدام دبلوماسياً Coherent sustainable diplomatic position
رابعاً : تسخير واستخدام كافة الإمكانات “القدرات” المهنية– المتخصصة المتاحة في الحقلين العسكري- المدني .
وأخيراً طرح قضايا جوهرية تلبي أولويات المصلحة الوطنية العراقية في إطارها الجيوستراتيجي . ضمن هذا الطرح تأتي أهمية البناء الهيكلي المؤسساتي العراقي الرصين للتفاوض من خلال تنمية وتعزيزأدوار مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية أيضاً في المجتمع العراقي من منظمات مجتمع مدني لاتسمح “مثالياً” بتدخلات سلبية تهدد أو تخرق السيادة الوطنية العراقية. الأمر الذي يتطلب بناء عراق حديث قوي الشكيمة من المنظور الجيوستراتيجي – الأمني .
إن المفاوضات الدبلوماسية القادمة على المستوى الستراتيجي تمثل الشكل الأكثر إستخداماً لتسوية النزاعات بعيداً عن اللجوء للعنف أو لأساليب القوة المباشرة سواءً بالتلويح أو بالاستخدام الفعلي لها. إنها الصورة الواقعية في الاتصال الإيجابي بين الأطراف المعنية الأساسية للتفاوض من أجل تنمية ما يلي : أولاً : درجات من التفاهم المشترك العراقي – الاميركي في الشؤون الاستراتيجية ، ثانياً : التوصل إلى إتفاق يتضمن التوصل لحلول وسط نسبياً مع الاهتمام الشديد بالمنافع المتوقعة من عمليات التقايض حول مختلف القضايا المهمة على أجندة التفاوض . ثالثاً: ضرورة إشراك منظمات المجتمع المدني في الحوار والتفاوض القادم تدعيماً للحوكمة الشرعية الرشيدة Legitimate and Good Governance . في الظرف الاعتيادي يفترض أن تعقد الحوارات وعمليات التفاوض في ظل محيط سلمي مستقر وآمن يسهل التوصل لإتفاقات مجدية ورصينة مستدامة نسبياً تمكن أطراف التفاوض من تحقيق مكاسب ومصالح حيوية مشتركة . أما الوضع المستقبلي المتوقع للعراق فإنه يعتمد أيضاً على طبيعة الشراكة الاميركية – العراقية في حقول متنوعة شملتها بنود إتفاق الإطار الستراتيجي منها الأمنية والاقتصادية وأخرى في الحقل الصحي – البيئي الذي من نماذجه حاليا مكافحة الأوبئة (مثل جائحة كورونا) العالمية من خلال تعميق الاستثمار المالي لبناء جهاز صحي حديث يتوافق مع تبادل الخبرات الطبية تمتينا للعلاقات بين المؤسسة الصحية العراقية والمؤسسات الصحية الاميركية ممثلة بمراكزالسيطرة و منع إنتشار الأوبئة — CDCP Centers for Disease Control and Prevention.. إن النجاح في تحقيق معدلات مرتفعة للنمو وللرخاء الاقتصادي بالاضافة إلى التوصل لمستوى مناسب من التنمية البشرية العالمية ليس من السهل تحققها ولكنها إن تحققت ستنعكس إيجاباً على داينمية الحالة التفاوضية العراقية والعكس صحيح في حالة الفشل . علينا أن ندرك أن المرحلة الراهنة للتفاوض تعد حرجة جداً في العلاقات الثنائية الاميركية – العراقية نظراً لتميزها بتغيير تقني سريع غير متيقن منه يحمل متغيرات تغطي الأوضاع التالية :
أولاً : عدم وضوح قواعد للسلوك التفاوضي المتنازع عليه ،
ثانياً : توفر أنماط متنافسة لتطبيق العدالة تنتهي إما بتصلب أو تسهيل التوصل لنتائج إيجابية.
ثالثاً : وجود ضعف مؤسسي خاصة في الحالة العراقية التي اثقلتها تراكمات ضعف الموازنات المقررة للصحة وللبيئة ومؤخراً أعباء وتكاليف غير مسبوقة لمعالجة جائحة كورونا ، الأمرالذي لاينعكس إيجاباً على عملية التفاوض اللهم إلا من باب إدراك ضرورة التعاون المشترك للقضاء على الجائحة او تخفيف حدتها .
رابعا وأخيراً : تتسم المرحلة الراهنة بعدم التيقن لصورة المستقبل المشترك لأطراف التفاوض كنتيجة طبيعية لأحداث مهمة مر بها العراق والولايات المتحدة الأميركية منذ نهاية 2019 وبداية 2020. لعل من ابرزها : اولا :منذ اوكتوبر 2019 تصاعد منسوب مسار الانتفاضات الشعبية السلمية بقيادة شباب العراق وبمشاركة فئات من مختلف شرائح الشعب العراقي خاصة في مناطق الوسط والجنوب العراقي هدفها إحداث تغييرات هيكيلية إصلاحية جيوسياسية – إقتصادية – مجتمعية بعيدة عن كل أنواع المحاصصات الطائفية – المذهبية ، العرقية ، القبلية – العشائرية والجهوية ، ثانياً : إنعكاسات وتداعيات إغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس والحاج أبي مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي في محيط منطقة مطار بغداد في ال3 من يناير 2020 وما تبعها من صراع آمني يحمل عنفاً متبادلاً مع الطرف الإيراني والمليشيات الموالية له ساحته العراق ما أدى إلى وضع الأخير بين مطرقة الولايات المتحدة الاميركية وسندان السلطات الإيرانية ما يستوجب إنبثاق سياسة استقلالية بالنئي عن النفس عن كلا الطرفين المتنازعين -الاميركي والإيراني- اللذان وضعا مصالح بلادهما في حالة تنافس محموم بين شد وجذب وفي الغالب على حساب المصلحة الوطنية العراقية. ترتيباً على ذلك ، لابد للعراق من موقف سياسي وطني مستقل ومؤثر يأخذه بعيداً عن ساحة الصراع الثنائي الأميركي – الإيراني ولكنه لايلغي إهتمام بغداد بتلبية مصالحه من خلال التفاوض مع الطرفين الأميركي والإيراني.
إن التفاوض الستراتيجي العراقي مع الجانب الأميركي أضحى في جانب رئيسي – برغم قرار مجلس النواب العراقي الطلب من الحكومة العراقية إخراج القوات العسكرية الاميركية البالغ عديدها مايقارب 5500 شخص من العراق – ضرورة ملحة للعراق خاصة وهو يواجه تحديات أستكمال بناء القوات المسلحة بجميع صنوفها من نماذجه الرئيسة تنمية بناء قوة الطيران والدفاع الجوي لمحاربة فلول داعش أوكاره ومضافاته في غربي ، شرقي وشمالي البلاد. من منظور مكمل فإن مشتركات القضايا موضوع التفاوض لن تقتصر على أهميته تنمية التعاون العسكري – الأمني من خلال تبادل الخبرات والمعلومات الأمنية – الاستخبارية بل هي من صلب الاهتمام المشترك المتسع وفقا لوثيقة الإطار الستراتيجي التي تضمنت مجالات واسعة من حالات التعاون : “إقتصادياً (الطاقة) – مالياً “، “مجتمعياً- ثقافياً” ، “صحياً – بيئياً”، “أتصالياً – معلوماتياً – تقنياً” و”سياسياً – دبلوماسياً”. ترتيباً على ذلك ، لابد لصانع القرار العراقي من إختيار أفضل الكفاءات للجان المتخصصة للحوار و التفاوض بهدف الخروج لأفضل النتائج التي تكسب العراق مزايا ستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط – الخليج العربي وما ورائها جيوسياسياً . مايعني أن استقرار المنطقة من استقرار العراق .