“تحدّي الاستحمام”… أحدث مواجهات السّوريين الصّحية وسط أزمة الاقتصاد

2

امرأة سورية تنقل المياه على كتفها

 يعاني السوريون عامةً على صعيد الصحة العامة، التي تمثلت مراراً بالأوبئة الناجمة عن تدمير البنى التحتية وضمناً منظومة الصرف الصحي وظروف الحرب المباشرة التي انعكست تسمماً وتلوثاً عاماً في المرافق الأساسية والرئيسية والحياتية حتى كادت تنعدم الشروط الصحية بحدودها الدنيا في كثير من المفاصل، وأبرزها حينما اضطرت سوريا مرةً لمواجهة وباء الكوليرا وأخرى لمواجهة فيروس كورونا، وفي المرتين ومعهما تسمم مياه العديد من مصادر المياه الطبيعية، وكل ذلك كان كفيلاً بإيضاح مدى تردي جودة السلامة العامة وصعوبة هيكلتها للحفاظ على الساكنين من الاجتياحات المرضية.

البداية الفعلية

بالتزامن مع ذلك وبعده، كانت سوريا قد بدأت تتلمس طريقها للشفاء، وتحاول تنفيذياً السيطرة على الموارد الأولية النظيفة ومعالجة المشكلات تباعاً بل والحدّ منها، لكنّ أزمة اقتصاديةً عاصفة ضربت البلاد في عزّ مشروع ترميم بنيتها التحتية أواخر عام 2019 بعيد تشديد وتنفيذ حزمة عقوبات غربية هي الأقسى في العصر الحديث على دول في الشرق الأوسط (قانون قيصر).

تلك الحزمة أفضت لانهيار اقتصادي تام الأركان جعل الليرة السورية تتهاوى مع صعود الدولار أكثر من ثلاثين ضعفاً في وقت قصير، بعدما كانت قد حافظت على مستوى لم يتخط عشر القيمة مقابل الدولار خلال عقد كامل من الحرب.

ذلك الانهيار المالي والاقتصادي انتقل من كونه مرتبطاً بالحرب العسكرية وتدمير البنى التحتية ليسكن داخل بيوت السوريين، فيحيل خيارات النظافة الشخصية إلى بدائل يدوية أو محلية مصنوعة بصورة تجارية لا تراعي في جوهر مكوناتها تراكيب المنتجات التي تكفل تأمين ما صنعت لأجله.

ارتفاع أسعار المنظفات المهول بالنسبة للشريحة الأوسع من السوريين، دفعهم لإيجاد بدائل رخيصة وغير صحية بدءاً من الصابون اليدوي وصولاً لاستخدام سائل جلي الأطباق والأواني المصنع محلياً كبديل من الشامبو الباهظ الثمن، وما أدى تالياً لتراجع عام في مستوى النظافة وجودتها، وانتشار الأمراض والحساسيات الجلدية انطلاقاً من تركيب تلك المواد غير المدروسة طبياً أو المخصصة لمراعاة نوعية الشعر والجلد والبدن عموماً.

شامبو للجميع

يستذكر المهندس زهران كيالي من دمشق، خلال حديثه مع “النهار العربي” فترة كورونا عام 2020، وكيف كانت الدعايات التلفزيونية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي تطالب الجميع باستخدام صابون “ديتول”، يقول: “كم كنت أسخر من تلك الإعلانات، في سوريا؟ وديتول أيضاً؟ ما هذا البذخ؟ بسعر تلك الصابونة كنت أطعم أسرتي لأسبوع، لذا فعلنا كما الجميع، كمّامة وربما بعض الكحول المعقم؛ قبل أن يحلق سعره بدوره، ووكلنا أمرنا إلى الله”.

ويضيف: “راتبي الحكومي الآن 220 ألف ليرة سورية (14 دولاراً)، لذا فرفاهية الماضي واختيار صنف يناسب كل فرد في عائلتي لم يعد ممكناً ولا متاحاً أو مقبولاً، جميعنا اليوم نستحم بالشامبو ذاته ذي الرائحة البراقة والمفعول القبيح الذي أدى لتساقط شعري وتحسس ابنتي”.

من الاستحمام إلى طبيبة جلدية

لمياء عنود، موظفة حكومية في دمشق، تقول إنّها تكبدت أضعاف ثمن الشامبو الرديء الذي أجبرت على استخدامه بسبب سعره المقبول، حيث أدى لتساقط في شعرها، ما حدا بها للاستعانة بطبيبة جلدية.

وتابعت: “دفعت لدى الطبيبة وكثمن للعلاج أضعاف ما كان يمكن أن أدفعه ثمناً للشامبو الجيد، وكان ذلك درساً قهرياً تعلمته، الآن أشتري الشامبو المهرب بعدما – بكل أسف – خصصت له جزءاً من راتبي الشحيح، الراتب الذي صار ينقسم لمواصلات وشامبو وفاتورة إنترنت، ولولا أهلي لما ظلّ معي ليرة واحدة للأكل أو الشرب”.

وتضيف: “نحن في هذا البلد نهرب من السيئ للأسوأ ونعيش ضمن شروط قاسية قياسية تنتفي فيها أبسط الصور الآدمية، فأنا التي كنت أوصي على مستحضرات الاستحمام من لبنان قبل الحرب في بلدي، اليوم أبحث في متاجرها عن الشامبو الأرخص”.

نعلم الحقيقة

ربّة المنزل أم سليمان لم تجد حلاً إلا بشراء ما وصفته بـ”الشامبو الغريب” المعبأ يدوياً بعبوات بلاستيكية، دون أن تحمل العبوة تاريخ صلاحية أو نوعاً أو ورقة تشير للمنتج من أساسه.

وتشرح عن تجربتها قائلة: “هل نحن أمام خيارات متعددة للانتقاء؟ لا أعتقد ذلك، هذا الخيار الأرخص والذي لم يسبب لنا مشكلات أكبر من أن نتعامل معها، كحساسية في جسد طفلتي عالجناها ببعض المراهم، وحرقة عيون، وأحياناً بعض الحكة، لكنّ ذلك الشامبو يعطي الكثير من الرغوة فيمنح انطباعاً بالرضا الكاذب، ورغم ذلك كل أسرتي وأنا نعلم أننا نستحم بشيء أقل جودة من أردأ سائل جلي”.

تبدل الخيارات

“كنا في الماضي نمارس الدلال خلال اختياراتنا، نشتري شامبو بالصنوبر، وآخر بالقرنفل، وغيرهما بالنرجس. شامبو لتساقط الشعر، وشامبو لقوة الشعر، وشامبو لنظافة تطول، وألف خيار.. أما اليوم فتلك الخيارات موجودة ولكنّها خارج قدرتنا المادية، فنكتفي بشراء الشامبو ذي السعر الأقل مهما بلغت غرابة شكله ولونه”، هكذا تعلق ماجدة عباس وهي ربّة منزل متقاعدة تقيم في دمشق مع أسرتها.

وتكمل: “ليس من ضرورة لأقول إننا استغنينا عن سائل استحمام الجسد، واكتفينا بسائل غريب للرأس وصابونة لما تبقى، ولأنّ بشرة ولدي الصغير دهنية فقد بدأ يعاني شكلاً متقدماً من بثور الحساسية التي نحاول علاجها عبر الطب الشعبي وطب الأعشاب، لأنّه ليس بمقدورنا تحمل تكاليف العلاج الجلدي”.

في الأرقام

الغريب أنّ تلك الأنواع من الشامبو بكل سوئها تبدأ أسعارها من 20 إلى 50 ألف ليرة سورية (بين 1.2 إلى 3.2 دولارات) أي أنّها تساوي رقماً معتبراً قياساً بمتوسط المرتب الشهري للموظف السوري الذي يبلغ نحو (13 دولاراً)، وباعتبار أنّ العائلة تستهلك نحو 4 علب شامبو شهرياً، عدا صابون الاستحمام.

والأمر ذاته ينطبق على الصابون اليدوي الذي يبلغ سعر القطعة الجيدة منه أقل من دولار بقليل ويتم استهلاك قطعة منه للأسرة كل ثلاثة أيام تقريباً، فيما راحت الكثير من العائلات نحو استخدام صابون الغار المعروف بـ”الصابون الحلبي” لكثافته وقدرته على الديمومة أكثر، ويكون عادة سعره نحو دولار واحد ولكن رغوته قليلة ويشكل عبئاً في الاستخدام لكبر حجمه.

ولا شك بأنّ سوريا تمتلئ بالشامبو المهرب الذي يبدأ سعر أدناه من 7 دولارات فما فوق، وهي عادةً من الأنواع المعروفة عالمياً، وبافتراض استخدام نوع متوسط سعره مهرباً حوالي 10 دولارات، فإنّ الأسرة ستحتاج 40 دولاراً شهرياً، مضافاً إليها 10 دولارات ثمناً للصابون، فيصير المجموع أربعة أضعاف راتب الموظف.

لا أحد بخير

تلك المستحضرات أدت غير مرة لإصابة مستخدميها بحساسيات جلدية مختلفة، بينها ما هو خطر كالصدفية وتهيّج الجلد والبثور وغيرها الكثير، ومجمل ذلك أدى إلى نشاط وعمل أكثر في قطاع الطب الجلدي والتجميلي الذي يتولى عامةً معالجة أمراض خطيرة وواضحة ومهددة للمظهر العام.

وفي هذا السياق تقول الطبيبة جيما الأجرش لـ”النهار العربي”: “نعم نحن نتولى معاينة وعلاج تلك الحالات، وبعضها يكون فعلاً خطراً ومتقدماً ويحتاج متابعة ورعاية وعناية وسيكون مكلفاً للمريض، وهذا مفهوم فحتى الأدوية صارت باهظة الثمن”.

وتتابع: “كذلك تزورنا حالات تستحم أساساً بسائل الجلي، هؤلاء الناس عاجزون عن استخدام مستحضرات طبية حقيقية للنظافة تحت آفة العجز المالي، فتكون أمامهم مشكلة أكبر في العلاج. وبالمناسبة، ألست أنا طبيبة، هل أخبرك ماذا أستخدم؟ ليكن الله بعون الجميع، فثمة أناس لا ماء لديهم من الأساس”.

أعلى الهرم وأدناه

يسعى السوريون كلّ يوم ألّا يخسروا شيئاً جديداً، ولكن قد يخسر شعبٌ أحياناً بأغلبه أمام أمواج عاتية لا يمكن إيقافها، وهذا ما حصل مع السوريين الذين ما زالوا يمتلكون قدرة المحاولة رغم ما ألمّ بهم من أسى.

وقد يخسرون أمام أقران لهم أفرزتهم الحرب بصورة طبيعية في الهرم الأعلى مجتمعياً لظروف أسبابها معلومة في الحرب، مقابل وضع كل من تبقى في أدنى ذلك الهرم، وذلك ما قالته سيدة لـ”النهار العربي” حين كانت تناقش صاحب متجر بسعر عبوة سائل استحمام محلية، بينما خلفها سيدة عبأت سلّة مشترياتها بالمستحضرات المهربة الباهظة الثمن.

التعليقات معطلة.