المسمار في حيط”، تعبير محلي يستعمله التونسيون عادةً لوصف نجاح أحدهم في الحصول على وظيفة وراتب شهري ثابت. عدد من الشباب التونسي قرّروا التخلّي عن هذا الخيار والتعويل على الذات، عبر إطلاق مشاريع خاصة توفّر لهم مورد رزق وتقطع مع عقلية التوجّه إلى الدولة للعثور على عمل. ويزيد إقبال الشباب في تونس من مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية على التوجّه نحو تأسيس مشاريع خاصة بهم في اختصاصات ومجالات مختلفة، ما يُؤشر وفق المتخصصين إلى تحوّل مهم في سوق الشغل التونسي. عقلية مجتمعو”المسمار في حيط” أو الحصول على عمل حرّ بالنسبة لكثير من التونسيين هو حلم وإنجاز في الوقت نفسه، لأنّه في نظر الأغلبية مرادف للاستقرار، ويعني أنّهم أخيراً استطاعوا العثور على مورد رزق ثابت يمكنهم البدء في رسم مسيرتهم المهنية والتخطيط لمستقبلهم بأمان. وكثيراً ما كانت العائلات التونسية تشجع أبناءها على مواصلة الدراسة والتخرّج من الجامعة أملاً في العثور على وظيفة حكومية، من شأنها أن “تؤمّن لهم حياة هادئة”، وفق المدرّسة المتقاعدة سميرة التي تقول لـ”النهار العربي” إنّ عثورها قبل أكثر من 30 سنة على مهنة في قطاع التدريس ساعدها في تأمين حياة أسرتها، وهي لذلك تفضّل أن يكون لأبنائها المسار المهني نفسه. أزمة البطالةلكن التقلّبات التي عاشتها تونس على امتداد أكثر من عقدين، خصوصاً بعد حوادث كانون الثاني (يناير) 2011 التي أطاحت نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، جعلت العثور على وظيفة خصوصاً في القطاع الحكومي، أمراً شبه مستحيل، إذ قرّرت السلطات وقف التوظيف في القطاع الحكومي، بعدما صارت رواتب العاملين فيه تشكّل عبئاً كبيراً على موازنتها.
وتستأثر كتلة الأجور في الوظيفة الحكومية بنحو 40 في المئة من موازنة تونس، ويبلغ عدد موظفي القطاع الحكومي أكثر من 660 ألف موظف. وللخروج من أزمتها الاقتصادية، قرّرت تونس التخلّي عن التوظيف في القطاع الحكومي، وهذا الإجراء هو من بين الإجراءات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي ضمن حزمة من الإصلاحات، وذلك في سياق مفاوضات بين الطرفين من أجل قرض قيمته 1.9 مليار دولار. في المقابل، فإنّ الحصول على وظيفة في القطاع الخاص ليس بالأمر الهين والمحبذ لدى شق كبير من التونسيين لسببين: الأوّل العدد القليل لهذه الفرص، وتراجع نسبة إطلاق المشاريع الخاصة، والآخر سياسات التوظيف فيها، التي لا توفّر لعمالها رواتب أو امتيازات تتماشى وما يقرّه القانون، ولا تحترم اتفاقيات الشغل وفي مقدّمتها التثبيت وعدم الطرد التعسفي. وتبلغ نسبة البطالة في تونس أكثر من 15 في المئة بحسب آخر إحصاءات لمعهد الإحصاء الحكومي لعام 2023. “سيّد نفسي”شريف الزروي واحدٌ من الشباب الذين تركوا الوظيفة الحكومية وقرّروا القطع مع ثقافة “المسمار في حيط”، كما يروي لـ”النهار العربي” عن تجربته وخياره الذي بدأ فيه قبل أعوام مباشرة إثر تخرّجه من الجامعة.استطاع الشريف الذي يدير منذ سنوات ورشة لإعادة تدوير الأحذية، جذب الأنظار إليه بفضل فكرة بسيطة وفريدة تتمثل في اصلاح الأحذية القديمة ومنحها “حياة ثانية”. درس الشاب التونسي اختصاص الفنون الجميلة في الجامعة، ومن دون تردّد قرّر أن يكون له مشروعه الخاص: “لم أنتظر الوظيفة الحكومية ولم أبحث عنها. قرّرت أن أكون سيّد نفسي”. وبإمكانيات بسيطة انطلق الشاب الذي قرّر “القطع مع عقلية المسمار في حيط” لتنفيذ فكرته، ونجح في تحويلها إلى علامة في عالم الأحذية محلياً، توفّر موارد رزق لعشرات الشباب وتحافظ في الوقت نفسه على البيئة.
ومثل شريف الزروي اختارت ريم حشاد أن يكون لها مشروعها الخاص الذي أغناها عن البحث عن وظيفة ثابتة، سواءً في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص. تدير ريم وهي ربّة أسرة درست الاقتصاد في الجامعة، مشروعاً لتدوير اللوح، كبُر مع الوقت وكسب إعجاب الزبائن. تؤكّد في حديثها لـ”النهار العربي”، أنّها لم تفكر في البداية في البحث عن عمل لأنّها كانت تعي جيداً أنّ “ذلك مستحيل خصوصاً في القطاع الحكومي”. وتقول: “لا أحد يفرض عليّ أوامره، أشعر بالراحة لأنني لست مطالبة بالالتزام بتوقيت معيّن وبالعمل تحت أمرة أشخاص آخرين”. تنصح ريم الشباب المتخرّج من الجامعة حديثاً بالتفكير في تأسيس مشروع خاص مهما كان الدخل الذي يدره، مؤكّدة أنّ “هذا أفضل من انتظار الوظيفة ومن عقلية المسمار في حيط التي كبّلت أغلب الأجيال السابقة”. شباب “الفريلانس”وفي السنوات الأخيرة انتشرت ظاهرة العمل وفق نظام “الفريلانس” (العمل الحرّ) خصوصاً في صفوف المتخرجين من الجامعة في اختصاص التكنولوجيات الحديثة والإعلام. ويقدّر رئيس جمعية ”ابروديت” أحمد الهرماسي في حديث لـ”النهار العربي” عددهم بنحو 120 ألفاً، مؤكّداً أنّ أغلبهم من خريجي الجامعات الذين اختاروا أن يسلكوا طريقاً مخالفاً لما تعوّد عليه التونسيون وقطعوا مع عقلية “المسمار في حيط”. ويضيف أنّ هؤلاء بحثوا عن حلول فردية للخلاص من شبح البطالة في سوق لا يوفّر مواطن شغل للشباب المتخرج حديثاً. ويلفت إلى أنّ “الفريلانس” يمكن أن يستوعب آلاف الشباب المتخرّج حديثاً اذا ما تمّ تنظيمه ووضع إطار قانوني له يسمح بتأطيرهم ضمن سوق منظمة، ويمكنهم من النفاذ إلى التغطية الاجتماعية، وهو ما يقول إنّه يقلّص الضغط على الدولة في ما يتعلق بمسألة التشغيل. وتظلّ فئة الشباب ممن تراوح أعمارهم ما بين 15 و24 عاماً الأعلى من بين طالبي الشغل في تونس، إذ تبلغ نسبة بطالتهم 40.2 في المئة.