محمد بن سعيد الفطيسي
”بات من المؤكد لدى الكثير من المحللين والمراقبين للمشهد السياسي والجيوسياسي وكذلك الاقتصادي في منطقة الشرق الاوسط, ان هذا الاخير مقبل على اكثر اعوام التحول اضطرابا وفوضى وعمقا وتأثيرا في البنية الهيكلية للسياسات والعلاقات بين اعضاء المنظومة الشرق اوسطية تحديدا, على اعتبار ان هذا الجزء من رقعة الشطرنج العالمية يشكل مفتاح الولوج إلى مراكز السلطة والقوة والسيادة العالمية وتوازن القوى الدولية في القرن 21 كما سبق واشرنا.”
ــــــــــــــــــــــــــ
لا شك ان الاضطراب في حقل العلاقات الدولية والفوضى السياسية المتزايدة التي تجتاح الشرق الأوسط خلال القرن الحادي والعشرين هي نتاج طبيعي ومتوقع لأكثر من عقد ونصف من المتغيرات السياسية والتحولات الجيوسياسية وكثافة وكم التدخلات الدولية التي شكلت الصورة الذهنية والمشهد السياسي الراهن في هذه البقعة الجغرافية والبيئة السياسية الساخنة من رقعة الشطرنج العالمية. والتي تعد بالغة الأهمية الجيوسياسية لكل مشاريع السلطة والقوة والنفوذ والهيمنة العالمية المستقبلية.
صحيح ان هذه الأحداث والتحولات هي نتاج لعقود طويلة من تدخلات وسياسات القوى الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية في هذه المنطقة خصوصا . الا ان الواقع السياسي يؤكد ان عمق تأثيراتها هو حصيلة لتلك التجاذبات والصراعات الحديثة التي نتجت عن الفراغ الجيوسياسي الناتج عن تراجع او على اقل تقدير مساعي الولايات المتحدة الاميركية الى تكييف نفسها مع تلك المتغيرات السياسية والجيوسياسية التي بدأت تجتاح الشرق الاوسط بعد احداث 11/ سبتمبر. والتي دفعتها الى تغيير الكثير من سياساتها ومخططاتها الاستراتيجية, خصوصا تلك المتعلقة بكونها مركز الجذب الدولي الوحيد، الامر الذي ادى بدوره الى حدوث صراعات وانقسامات وتوترات مرتبطة بالعامل الجيوبوليتيكي داخل المنظومة الشرق اوسطية نفسها, وذلك بهدف ملئ الفراغ الجيوسياسي الذي تخلفه الولايات المتحدة الاميركية وراءها كل يوم. حتى وان كان هذا التحول الجيوسياسي في الشرق الاوسط تعمل على تشكيله وادارته وتوجيهه الولايات المتحدة الاميركية نفسها مرغمة الى حد كبير مع بعض الدول العظمى في المنطقة كروسيا والدول الاقليمية الفاعلة كإيران وتركيا, وبتصوري ان الصين لن تفوت كذلك ان يكون لها دور في صراعات النفوذ والهيمنة في الشرق الاوسط خلال العقد الثالث من القرن 21.
و(لما كان مقدرا لقوة اميركا غير المسبوقة ان تضاءلت على مر الزمن, فإن الاولوية يجب ان تعطى لتدابير ارتقاء القوى – القارية و- الاقليمية الاخرى بطرق لا تهدد اميركيا العالمية – وهو ما اطلقنا عليه بنظرية التكيف الاميركية سالفة الذكر – وكما هو الحال في الشطرنج يتوجب على مخططي السياسة العالمية الاميركيين ان يفكروا بعدة نقلات مقدما متوقعين حدوث نقلات مضادة, ولهذا ينبغي على الجيواستراتيجية المستدامة, ان تميز بين الآفاق القصيرة المدى والمتوسطة والبعيدة المدى, يضاف الى ذلك ان تلك المراحل يجب ان ينظر اليها بوصفها اجزاء من كم متصل, حيث يجب ان تقود المرحلة الاولى ثم المرحلة الثانية لاحقا نحو الثالثة)( ).
على ضوء ذلك بات من المؤكد لدى الكثير من المحللين والمراقبين للمشهد السياسي والجيوسياسي وكذلك الاقتصادي في منطقة الشرق الاوسط, ان هذا الاخير مقبل على اكثر اعوام التحول اضطرابا وفوضى وعمقا وتأثيرا في البنية الهيكلية للسياسات والعلاقات بين اعضاء المنظومة الشرق اوسطية تحديدا, على اعتبار ان هذا الجزء من رقعة الشطرنج العالمية يشكل مفتاح الولوج الى مراكز السلطة والقوة والسيادة العالمية وتوازن القوى الدولية في القرن 21 كما سبق واشرنا . يضاف الى ذلك ان (الشرق الأوسط يحتل مع امتداداته في اتجاه القفقاس واسيا الوسطى موقعا بالغ الاهمية في الجيوسياسية الامبريالية – العالمية – وهناك ثلاثة عوامل يضيفان اليها هذه الاهمية: ثروته النفطية , وموقعه الجغرافي في قلب العالم القديم , وكونه بات يشكل البطن الرخو في النظام العالمي ).( )
اما من جهة اخرى وكما سبق الاشارة اليه من ان اساس تلك التحولات ستتركز حول التغيير الجذري في موازين القوى والسلطة والنفوذ والهيمنة في هذه البقعة من العالم , سواء كان ذلك بين القوى الكبرى نفسها. او بين تلك القوى القارية والاقليمية المحورية او الجيواستراتيجية في منطقة الشرق الاوسط بوجه خاص والقارة الاسيوية بوجه عام , ما سيحرك بدوره مختلف الصفائح الساخنة في عمق وقاع المرجل الشرق اوسطي الى الثوران والتحرك الى الاعلى, او إلى الامام, في مواجهة تلك التحولات التي يمكن ان تؤثر في مكانتها السياسية ومصالحها الجيوسياسية, الأمر الذي سيدفعها الى الدفاع عن مناطق نفوذها , او للبحث عن موقع لها بين تلك القوى الاقليمية القائمة على الخروج من عمق تلك التغيرات والاضطرابات الكبرى.
ومن هنا (فإن توازن القوى يستلزم لتحقيقه واستمراره اقامة بناء من التحالفات الدولية والتحالفات المضادة , والتي هي في حالة من السيولة والديناميكية الدائمة, وذلك حتى يمكنها ان تستجيب لظروف الواقع الدولي الذي تخلفه, وتذبذبات القوة وتقلباتها لدى تلك الاطراف بعضها او كلها, والتي يعتمد عليها صنع التوازن, فمؤشرات التوازن الدولي هي التي تتحكم في حركة الدخول والخروج من تلك التحالفات , وكذلك في الاسلوب الذي تتم به اعادة صياغتها وتكوينا بالكيفية التي تمكنها من تحقيق هدف التوازن بشكل فعال ). ( )
اذا يمكن القول ان من ابرز تدابير الارتقاء ومشاريع التحول الجيوسياسي المستقبلية المؤكدة على خارطة الشرق الاوسط خلال العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين هي حدوث تلك الحالات من الاصطفافات والتحالفات في مشاريع الهيمنة والنفوذ والقوة بين تلك القوى العابرة للحدود الوطنية والقوى المحورية والجيواستراتيجية في منطقة الشرق الاوسط, وهو ما يدعونا للتأكيد على ان العقد الثالث من القرن 21 , سيشهد بدايات ما يطلق عليه بنظام حكم الكثرة والذي ستبقى فيه السلطة (متعددة الأبعاد ومبعثرة كثيرا بما لا يسمح بذلك النوع من قوة الجذب التي تمارسها مراكز الاستقطاب او الاطراف المهيمنة الاقليمية منها والعالمية).( )
وعلى اية حال لن تختلف اشكال وطرائق الاصطفاف عما كانت عليه عبر مختلف عصور التاريخ بالرغم من اختلاف الزمان والمكان والقوى القائمة وحتى شكل النظام العالمي المتشكل. فقد (عملت القوى الكبرى وعلى مر التاريخ من اجل الحفاظ على قوتها والاستمرار في الثبات والاستقرار داخل الحضارة او بين الحضارات المختلفة , وتحاول القوى اللاعبة على الساحة بصورة مستمرة ايجاد نوع من التوازن بين القوى, سواء كان هذا التوازن بين مجموعة من القوى , كما شهدناها في القرن الثامن عشر والتاسع عشر , ام بين قوتين كبيرتين كما كان الحال في القرن العشرين بين الكتلتين الشرقية والغربية, حيث تحاول القوى الاخرى الموجودة ان تخبئ نفسها وراء احدى هاتين القوتين وتدخل في تحالف مصيري معها ).( )
فحين (تبرز قوى كبرى وتجلب الانظار, في مقابل ذلك تحاول القوى الاخرى الادنى مرتبة منها ان تقيم تحالفا ضد هذه القوة وتعمل على لجمها وعرقلة خطواتها, وفي الوقت نفسه تعمل القوة الاكبر على فرض هيمنها, ومع ظهور المواجهة بين القوى العظمى على العلاقات الدولية في جميع ارجاء العالم وضبط مسارها لصالحها, ولكن بالرغم من استقراراها الى حد ما الا انها لم تستطع ان تضبطها تماما ,فقد كانت هناك دائما منطقتان خلقت فيهما التوترات المغروسة , وهي توترت مرتبطة بالعامل الجيوبوليتيكي بصورة اكبر, افضت من وقت الى اخر الى حروب. والمنطقتان هما: الشرق الاوسط والقسم الشمالي من شبه القارة الهندية).( )
ومن بين اكثر احتمالات الاصطفاف وتدابير الارتقاء التي باتت منظورة على الواقع السياسي او المشهد السياسي الشرق اوسطي او تلك المؤكد تشكلها خلال العقد القائم والقادم هي انقسام القوى العالمية على رقعة الشطرنج الشرق اوسطية الى الاصطفافات التالية: اولا : القوى الكبرى وهي الولايات المتحدة الاميركية وروسيا اللتان ستضطران الى اقامة تحالفات مع القوى القارية والاقليمية في المنطقة بهدف تأكيد مناطق نفوذها خلال المرحلة القادمة. خصوصا ان فكرة القوى الاحادية او المركزية لم تعد قائمة في ظل المشهد الدولي الراهن والنظام العالمي القائم على التشكل من نظام حكم الكثرة. وبالتالي يمكن القول ان القوتين الوحيدتين اللتين ستستمران كقوى عظمى خلال العقد الثالث على اقل تقدير من القرن 21 هي الولايات المتحدة الاميركية وروسيا, الا انهما لن يشكلا ثنائية قطبية يمكنها استقطاب بقية أعضاء المنظومة الدولية من خلالها كما كان على عهد الاتحاد السوفيتي.
ثانيا: القوى القارية: وهي ايران وتركيا والصين في الوقت الراهن على اقل تقدير وهي دول قائمة بالفعل على تشكيل تحالفاتها المستقلة في حدود القارة الاسيوية ومنطقة الشرق الاوسط. ويلاحظ بالفعل ان تركيا وايران خصوصا تتحركان في منطقة الشرق الاوسط بقوة في هذا الاطار. خصوصا من خلال الاصطفاف مع بعض القوى الاقليمية ذات القوة والنفوذ. صحيح ان تلك التحالفات القائمة على التشكل ستكون اقرب الى التحالفات المقنعة او غير المعترف بها على الصعيد الرسمي حتى وقت قادم , الا انها ستكون بالفعل تحالفات يمكن مشاهدة اثارها وانعكاساتها السياسية والاقتصادية خصوصا على خارطة الشرق الاوسط خلال العقد القادم خصوصا. على ان الصين والهند ستتأخران بعض الشيء في التحرك في هذا السياق الاستراتيجي.
ثالثا: القوى الاقليمية: بقية اعضاء رقعة الشطرنج الشرق اوسطية والتي هي بدورها تتقاطع الرغبة في السلطة والهيمنة والنفوذ بالرغم من صغر حجم بعضها من الناحية الجيوسياسية ولكنها تملك القوة المادية والاقتصادية وكذلك العسكرية. وبالتالي ستبحث لها عن مكانة جيوسياسية بين هذا الكم الهائل من الاصطفافات والتحالفات الفضفاضة القائمة على التشكل في منطقة الشرق الاوسط , واخرى ستضطر إلى الاختباء وراء القوى العظمى او القارية ولو بشكل مؤقت حتى تستطيع استعادة قوتها ومكانتها الجيوسياسية كالعراق وسوريا واليمن على سبيل المثال لا الحصر.
اذا فخارطة الشرق الاوسط ومن خلال قراءة اولية بناء على المعطيات الجيوسياسية والجيواستراتيجية سالفة الذكر ستشهد خلال الفترة من 2018-2020م فترة من الاضطراب والفوضى والتوتر في حقل العلاقات والسياسات الدولية, وتحديدا بين دول الشرق الاوسط . خصوصا تلك المتعلقة بالاصطفافات والتحالفات القائمة على التشكل بقيادة القوى القارية في المنطقة. بحيث سنشهد ولادة تحالفات جديدة وتراجع او تجزئة بعض التحالفات القائمة, على امل ان تتكامل تلك المنظومة الجديدة مع مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين في مختلف اشكال وتوجهات الاصطفافات والتحالفات لتشكل بعدها شكل وماهية النظام العالمي القائم على التشكل من نظام حكم تتنازعه الكثرة خلال الفترة من 2021-2030م .