عادل سعد
لا يقف التوحش الاقتصادي عند حدود الهيمنة الكلية على مقدرات الربح المفتوح وتجيير كل منافذ الكسب لصالح من يتولاه فحسب، وإنما أيضا منع الاقتصادات الأخرى من الحصول على فرص في تطوير إمكاناتها بما يخدم حاجاتها، أي تحت ضغط (لن أجعلك غنيا، ولا أسمح لك أن تستغني) في ملاحقة ذميمة للحقوق لكي لا تجد مجالا من الفوائد المشروعة، وإلا ماذا تعني العقوبات الجديدة التي فرضها الأميركيون على شركات أوروبية وروسية تنفذ مشروعا لإيصال الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر شبكة أنابيب توفر ضمانة أكبر في استقرار هذه التجارة، ومن ثم إلى دول أوروبية أخرى؟
لقد كشفت العقوبات الاقتصادية الجديدة التي فرضتها الإدارة الأميركية عن خلل سياسي لوجستي يضرب معايير التحالف المعروف القائم بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. فلقد فرضت هذه الإدارة عقوبات على الشركات الأوروبية التي تنفذ المشروع إلى جانب العقوبات التقليدية على شركات روسية تسهم في مد الأنابيب عبر بحر البلطيق مرورا بفنلندا والسويد والدنمارك ثم إلى ألمانيا.
تبلغ كلفة المشروع عشرة مليارات دولار، ومن المؤمل أن ينتهي إنجاز مد الأنابيب ومحطات الضخ نهاية العام المقبل لتتم عملية ضخ الغاز في أواخر عام 2020، وبذلك تكون أوروبا قد عزلت جانبا المناكفات المعروفة بينها وبين الروس إلى غير رجعة بعد أن كانت هذه السياسة هي التي تحكم الأولويات الأوروبية.
الأصل في عوامل المشروع أنه يمثل تطورا مهما للعلاقات الاقتصادية بين موسكو والاتحاد الأوروبي، فبعد أن كان الغاز الروسي يصل إلى ألمانيا عبر بولندا وأوكرانيا يمثل المشروع الجديد تحولا تجاريا مهما لتوطيد المصالح الاقتصادية الروسية الأوروبية مباشرة، إذ من شأن ذلك أن يعيد تشكيل المشهد التجاري بينهما على أسس أكثر رسوخا، لأنه ليس صفقة آنية، بل اتفاقا طويل الأمد مع هامش من حاجة مشتركة لا تسر الأميركيين الذين ما زالوا يعتقدون أن أوروبا ليست سوى ضيعة لهم منذ تطبيق مشروع مارشال لإعادة إعمارها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.
مشروع (نورد ستريم2) فكك شعورا أبويا أميركيا زائفا مفاده بأن أوروبا لن تخرج عن الطاعة والوصاية التي تمارسهما واشنطن، وهذا من شأنه أن يضعها أمام الذهاب أكثر في التعكز على العقوبات، وليس التفكير ببدائل يمكن أن تحقق مكاسب معينة لا غبار عليها.
لقد تذرعت واشنطن أن المشروع يلحق ضررا بالغا بالمصالح الأوكرانية، في حين أن روسيا عالجت هذه الذريعة في اتفاق مع أوكرانيا دفعت بموجبه موسكو أكثر من ملياري دولار إلى كييف تعويضات؛ لأن الغاز الروسي كان يمر عبر الأراضي الأوكرانية لكي يصل إلى دول أوروبية, وكان الأوكرانيون يتقاضون رسوما على مروره.
لقد سكت الأوروبيون على الأميركيين صاغرين في النسخ الأولى من سياسة الرئيس ترامب (أميركا أولا)، لكن التحسس الأوروبي من هذه السياسة أخذ يتشكل تدريجيا وتبلور عدم رضا أوروبي واضح منذ منتصف عام 2017 تمثل في اعتراضات واضحة عليها بعد فرض رسوم بمثابة عقوبات على تبادل بعض السلع، ثم الموقف المتباين من حلف الناتو إلى الحد الذي دفع الرئيس الفرنسي للقول عنه بأنه يعاني موتا سريريا نكاية بالموقف الأميركي منه، وإذا كان مشروع الغاز الروسي سيوفر المزيد من الدفء الذي تحتاجه أوروبا فإن من الحتمي أن يجد النفوذ الروسي حضنا أكثر رحابة داخل هذا الدفء.