تراث غزة تحت النار.. الأرقام تكشف الكارثة

3

أحمد إبراهيم الشريف

 

عامان مرا على الحرب القاسية التى يتعرض لها أهل غزة، وفى المشهد ما يكفى من الجوع والخوف لتصدع المعنى الإنسانى ذاته، غير أن الفاجعة لم تحصر خسائرها فى قتل البشر وتشريد من تبقى ومطاردة الباقين بالجوع والبرد، بل امتدت إلى ما يحفظ للناس أسماءهم الأولى “التراث” بوصفه هوية وذاكرة وسيرورة عيش، فمنذ 7 أكتوبر 2023 تحول تراث غزة من فضاء للهوية والذاكرة إلى “منطقة اشتباك”، وتحولت المآذن والقباب والحمامات القديمة والبيوت الأثرية إلى عناوين للأخبار بدل أن تظل عناوين للحياة، وخلال عامين من القصف والعمليات البرية، لم تتوقف صور المساجد والكنائس والحمامات التاريخية وهى تتهاوى، ولا أخبار المكتبات والأرشيفات وهى تحترق أو تُصادر، كأن اليد الممتدة على الحجر إنما تمتد على الذاكرة ذاتها.

الأرقام تكشف الكارثة
اللغة هنا لا تكفى وحدها، الأرقام نفسها تتكلم، فحتى 18 أغسطس 2025 تم التحقق من تضرر 110 مواقع تراثية فى غزة، 13 موقعًا دينيًا، و77 مبنى ذا قيمة تاريخية/فنية، و3 مستودعات للتراث المنقول، و9 نُصب، ومتحف واحد، و7 مواقع أثرية، وهذه حصيلة مرشحة للارتفاع مع استئناف الوصول الميدانى الكامل، إذ ما زالت مناطق واسعة خارج نطاق التوثيق الميدانى المنتظم، وإلى جانب ذلك، قدّمت وزارة الثقافة الفلسطينية مطلع 2024 تقديرًا بأن 207 مبانٍ ومواقع ذات أهمية ثقافية وتاريخية من أصل 320 قد دُمرت أو تضررت بشدة، وتشمل مساجد وكنائس ومكتبات ومتاحف وأرشيفات، ولا تُظهر هذه الأرقام مجرد اتساع دائرة الضرر، بل تكشف نوعيته، إصابة متعمدة أو عشوائية لبنية المعنى التى تقوم عليها المدينة، أى إن ما يُنتزع ليس حجارة فحسب، بل الذاكرة المشتركة وملامحها.

مواقع بارزة ضاعت
لم تكن الرموز الكبرى بمنأى عن العصف، فالجامع العمرى الكبير، أقدم مساجد غزة وأيقونتها المعمارية، تلقى ضربات ثقيلة خلال 2023 طالت المئذنة والكتلة التاريخية، فانهار جزء من السردية الدينية والمدنية التى تشكل ذاكرة المدينة منذ قرون، وعلى مسافةٍ لا تُقاس بالأمتار بقدر ما تُقاس بالعاطفة، كان قصر الباشا -الذى عُرف بمتحف غزة التاريخي- يتحول إلى ركام، لتسقط معه غرف حملت لوقت طويل آثارًا وحكايات لأجيال من الغزيين، أما حمام السمرة، آخر تمثيل حى لثقافة الحمامات التقليدية فى غزة، فقد دمر تدميرًا يعادل محو عادة اجتماعية كاملة كانت تُمارس فى فضاء معمارى مخصوص، كما طاول التدمير مركز رشاد الشوا الثقافي، أحد أكبر فضاءات الثقافة المدنية، وهو المكان الذى احتضن لقاءات وندوات شكلت وعيًا عامًا فى التسعينيات وما بعدها، فإذا به يتحول إلى أثر بعد عين، ولم تسلم كنيسة القديس برفيريوس اليونانية الأرثوذكسية من القصف، إذ ضرب مبنى داخل مجمعها يوم 19 أكتوبر 2023 وسُجلت وفيات بين المدنيين الذين احتموا بالمكان، حدث يبين أن الفضاءات المقدسة لم تعد تستثنى من الخطر، وأن معنى الملاذ ذاته صار مهددًا.

المواقع الأثرية… محو التاريخ
على امتداد الشريط الساحلى والهوامش الأثرية للعمران الحديث، جاءت الضربة كأنها محاولة لمحو الزمن نفسه، فدير القديس هيلاريون/تل أم عامر—الموقع الذى أدرج على قائمة التراث العالمى المعرض للخطر فى يوليو 2024، فى اعتراف بقيمته وفى تحذير من قرب فقدانه، وفى مواقع أخرى مثل أنتيدون (الميناء اليونانى القديم) و”قصر نابليون” والمتحف الخاص الوحيد فى غزة، سجّلت تقارير عديدة قصفًا وحرائق أودت بما تبقّى من دلائل مادية على حركة التجارة والحياة التى عرفتها غزة عبر العصور، فليست هذه المواقع زينة للمدينة، بل هى فقرات من كتابها القديم.

المكتبات والأرشيفات والمتاحف… حرق الذاكرة
لا يكتمل المشهد دون الإشارة إلى خسائر المعرفة المنظمة، فالتقارير المهنية الموثقة رصدت قائمة أولية للمكتبات والأرشيفات والمتاحف التى تعرضت للتدمير أو الضرر أو النهب، مع الاعتراف بأن الانقطاع والتهجير واستهداف العاملين الثقافيين صعب على فرق التوثيق حصر الصورة كاملة، كما وصفت تقارير واسعة ما جرى لمدينة غزة التاريخية بأنه تدمير للنسيج العمراني، حيث انهارت بيوت تاريخية وأحياءٍ بكاملها، بما يشمل مساجد وكنائس ومقابر ومراكز ثقافية، وفى المدينة القديمة تضررت عشرات المواقع، وتغيرت ملامح الشوارع إلى حد يصعب على أهلها رسم خريطة أيامهم.

ما الذى تعنيه هذه الخسارة؟
الخسارة هنا ليست ترفًا ثقافيًا يمكن تأجيل التفكير فيه حتى تهدأ المدافع، إنها خسارة فى صُلب الهوية، فحين يُمحى المسجد الجامع والحمام القديم ومركز المدينة الثقافي، يُمحى معها “سياق الحياة” الذى يمنح الناس سرديتهم ومعنى وجودهم: أين يلتقون؟ بأى صور يتعرفون أنفسهم؟ ومن أى ذاكرة يغرفون قدرتهم على الصمود والأمل؟ إنّ العمارة التاريخية ليست جدرانًا للعين فقط، بل هى إحداثيات للروح؛ بها يتذكر الناس أعراسهم وجنازاتهم، مواسمهم وأسواقهم، كلماتهم الأولى فى القراءة وصيحاتهم الأولى فى اللعب.

التعليقات معطلة.