في ولايته الثانية، يعود دونالد ترامب إلى المسرح السياسي العالمي لا كرئيس فقط، بل كتاجر ماهر في سوق السياسة، يعرض الولاء الأميركي في مزاد مفتوح، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المال. لم تعد المبادئ هي ما يحدد اتجاهات السياسة الخارجية لواشنطن، بل مقدار ما يدفعه الآخرون لضمان الحماية، أو على الأقل، لتجنّب غضب الرجل الذي يتربع على عرش القوة الأكبر في العالم.
لقد تحولت السياسة الأميركية، في عهد ترامب الثاني، إلى نسخة أكثر فجاجة من دبلوماسية “العصا والجزرة”. لكن الجزرة الآن تُباع، والعصا تُرفع في وجه من يتأخر عن الدفع. من الخليج إلى شرق آسيا، مروراً بأوروبا وأميركا اللاتينية، يعيد ترامب رسم معادلة العلاقات الدولية على أساس: “ادفع تُحمَ، توقّف تُهدَّد”.
المبدأ للبيع… لمن يدفع أكثر
إنّ المراقب لسلوك الإدارة الترامبية الجديدة يدرك سريعاً أن لا ثوابت تحكم قرارات البيت الأبيض، سوى منطق الصفقات. مواقف السياسة الخارجية تتغير بتغير الأرقام في الحسابات المصرفية، وحقوق الإنسان تُغضّ عنها الأبصار إذا أبرمت صفقات أسلحة بمليارات الدولارات، بينما تُرفع رايات الدفاع عن الحريات في وجه من لا يملك ما يكفي من المال ليشتري صمت واشنطن.
ترامب لا يخفي احتقاره للتحالفات التقليدية ولا يكترث لقواعد القانون الدولي. يعامل حلفاء الأمس كمجرد زبائن، ويضع شروطاً أقرب إلى الفدية مقابل استمرار الدعم أو الحماية. هكذا أصبح الحلف الأطلسي عبئاً مالياً عليه، ودُعي الأوروبيون إلى زيادة إنفاقهم العسكري، لا لحماية أنفسهم فقط، بل لضمان بقاء “الولاء الأميركي” على قيد الحياة.
منطق القوة على حساب القيم
التاريخ سيذكر أن الولايات المتحدة، تحت قيادة ترامب، تخلّت عن دورها الأخلاقي المفترض، وارتضت لنفسها أن تكون لاعباً مرتزقاً في ميدان السياسة الدولية. ليست المبادئ الليبرالية ولا القيم الديمقراطية ما يحرك ساكني المكتب البيضاوي، بل رغبة محمومة في تحصيل الأرباح بأي ثمن.
أمام هذا الواقع، تبدو كثير من الدول في سباق محموم لشراء رضا واشنطن، خشية أن تتحول فجأة من حليف إلى هدف. فـ”الحماية الأميركية” لم تعد امتيازاً سياسياً، بل منتجاً في سوق مفتوح، يخضع للمزايدة والتفاوض. ومن لا يدفع، فعليه أن يتحمّل عواقب الغضب الترامبي، سواء على شكل عقوبات اقتصادية، أو تغريدات تهدد بالويل والثبور، أو حتى دعم خصوم الداخل.
لعبة مكشوفة… لكنها مغرية
المفارقة أن هذه اللعبة، رغم افتقارها للشرعية الدولية، تجد من يشارك فيها باندفاع. بعض الأنظمة ترى فيها فرصة لتعزيز شرعيتها، أو لضمان بقائها، حتى لو كان الثمن هو التنازل عن القرار الوطني. وهكذا يتحوّل ترامب إلى شقيّ العالم، لا فقط لأنه يهدد ويتوعد، بل لأنه ينجح في استدراج خصومه وحلفائه على حد سواء، إلى لعبة خاسرة من البداية، حيث لا رابح فيها سوى صاحب المزاد.
إذا استمرت هذه السياسة في تحديد ملامح النظام الدولي، فإن العالم سيتجه أكثر نحو الفوضى السياسية والاقتصادية، وستتراجع ثقة الشعوب بالديمقراطيات الغربية، ويزداد الاحتقان بين الأمم. ترامب لم يغيّر فقط قواعد السياسة الأميركية، بل أعاد تعريف مفاهيم مثل “التحالف”، “الولاء”، و”المصالح المشتركة”، لتصبح مجرد بنود في فاتورة لا تُسدَّد إلا نقداً.
فمن يشتري ولاء شقيّ العالم؟ الجواب: من يدفع أكثر .