بقلم : نصار إبراهيم
هنالك مثل إنجليزي شهير يقول: «He Who Pays the Piper Calls the Tune»، يعني بالعربي الفصيح: «من يدفع للعازف يحدّد اللحن».
مناسبة التذكير بهذا القول، هي تصريحات دونالد ترامب خلال لقائه مع بنيامين نتانياهو رئيس وزراء «إسرائيل»، على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس يوم 25 كانون الثاني 2018، حيث قال: «الفلسطينيون لم يحترموا الولايات المتحدة، لقد أبدوا عدم احترام تجاهنا قبل أسبوع بعدم السماح لنائب رئيسنا الرائع بمقابلتهم… أيّ والله هيك حكى الرائع، يقصد مايك بنس هاد اللي خطب في الكنيست قبل كم يوم ، نحن نمنحهم مئات الملايين، وهذه الأموال لن تسلّم لهم إلا إذا جلسوا وتفاوضوا حول السلام… لدينا اقتراح للسلام، إنه اقتراح عظيم للفلسطينيين». وبالمناسبة منهجية ترامب أو أميركا هذه، لا تنطبق على الفلسطينيين فقط.. بل إنها تشمل أيضاً الكثيرين غيرهم.. هنا وهناك.
هذه التصريحات بدت للبعض صادمة، وقحة، وغير مؤدّبة…
حسناً، لنهدأ قليلاً… أو كما كانت تقول أمي «فضة» أو «سيلفيا» بالإنجليزية: حُطّوا ع ذيالكوا حجر!
بالتأكيد أنّ هناك ألف سبب وسبب لشتم ترامب وشتم الإدارات الأميركية المتعاقبة… ولكن ليس من بينها ما يبرّر شتم الولايات المتحدة لأنها قرّرت وقف تقديم «الدعم المالي» للفلسطينيين لأنهم احتجّوا على قرار ترامب بإعلان القدس عاصمة لـ»إسرائيل»، أو بسبب عدم حماستهم لصفقة العصر التي يعرضها ترامب عليهم بمباركة سعودية. ذلك لأنّ ما يسمّى «الدعم المالي» الأميركي للفلسطينيين يقدّم وبكلّ وضوح كثمن للتنازلات السياسية التي قدّمت حتى الآن، ولما سيقدّم من تنازلات لاحقاً بما في ذلك القدس.
«أميركا ليست جمعية خيرية»! هذا ما أعلنه ترامب أكثر من مرة حتى أصبح مملاً، دون أن ننسى استعارته المدهشة حين شبّه دول الخليج بـ «البقرة الحلوب» التي سيحلبها حتى آخر قطرة من مال وكرامة…
إذن السؤال الذي يجب أن يشغل البال والعقل على المستوى السياسي هنا، ليس ما قاله ترامب، بل: هل الفلسطينيون وهم يتسلّمون «الدعم المالي» من أميركا على شكل بضعة ملايين من الدولارات سنوياً، كانوا يعتقدون – عن جدّ – أنّ أميركا ترسلها كمساعدة نزيهة، أو من باب التضامن الإنساني الذي لا قبله ولا بعده!؟ هذا هو السؤال.
من سيقول لي: نعم… حينها، عليه أن يبرهن لنا أنّ أميركا كانت فعلا تقدّم تلك المساعدات لأهداف إنسانية وخيرية نبيلة، بمعنى أنّ «الدعم المالي» الذي تقدّمه أميركا هو مجرد هبات كريمة ليس لها علاقة بمشاريعها ومخططاتها السياسية وأوّلها حماية مصالح حليفتها الأولى «إسرائيل»!؟
لكي أمهّد وأسهّل الطريق على من سيثبت لنا هذه الفرضية، أعيد التذكير ببعض البديهيات حتى لا يقول لنا، من سيتصدّى لهذه المهمة، إنه لم يكن يعلم، ذلك لأنه إنْ لم يكن يعلم ما هو معلن أصلاً فتلك مصيبة، أما إذا كان يعلم ويتوقع من ترامب عكس ما قال حينها تصبح مصيبتين.
لنتابع إذن: الكلّ يعرف، بما في ذلك أطفال فلسطين، أنّ كلّ التمويل، وما يرتبط به من مشاريع تنموية، التي قيل بأنها ستجعل من الضفة وغزة سنغافورة ثانية، والذي تمّ الوعد والالتزام بتقديمه من قبل جميع المموّلين وعلى رأسهم أميركا، كان مشروطاً بموافقة الفلسطينيين وقبولهم الدخول في «عملية السلام» وفق ما تمّ تحديده من أسس ومنطلقات وآليات ونواظم ورعاة، هذا هو الشرط الناظم والحاكم لاستمرار تدفق المساعدات إلى السلطة الفلسطينية، وهو ما سيبرهن على جدوى «عملية السلام» وفائدتها.
حسناً، لنعد إذن قليلاً لمنطلقات وشروط ونواظم تلك العملية:
أن تجري برعاية الولايات المتحدة وروسيا، أما مرجعياتها فهي ما يتفق عليه الطرفان المتفاوضان «إسرائيل» ومنظمة التحرير ، فيما الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي يشاركان بصفة مراقب. ترتب على ذلك تهميش قرارات الأمم المتحدة واستبدالها بمرجعية التفاوض الخاضعة بمجملها لموازين القوى…
أن لا تضرّ عملية السلام بمصالح «إسرائيل» وحلفائها، وأن تخدم التحالف الاستراتيجي ما بين الولايات المتحدة و»إسرائيل»، وبهذا الخصوص يقول باراك أوباما «روابط أميركا القوية مع إسرائيل معروفة جيداً. هذه الروابط غير قابلة للكسر. إنها قائمة على روابط ثقافية وتاريخية، والاعتراف بطموحات اليهود بوطن لهم متجذرة في تراجيديا التاريخ، وهذا أمر غير قابل للرفض» صحيفة الغارديان 4 حزيران 2009 .
ومنه، وبناء عليه، يا سادة يا كرام، فإنّ:
أولاً: استمرار تدفق التمويل للسلطة الفلسطينية يجب أن يخدم هذه الأهداف وأن لا يتناقض معها. ولكي ندرك ترجمات ذلك بالضبط، دعونا نستمع لما يقوله كلّ من الأستاذ العمد والأستاذ عورتاني في دراستهما التي بعنوان: «الاقتصاد الفلسطيني في مرحلة التحوّل» حيث يعرضان الآلية التي تعتمدها الولايات المتحدة قبل تقديم أية مساعدة للسلطة الفلسطينية، يقول الباحثان: «إنّ تخصيص المساعدات للفلسطينيين يخضع للجنة الخارجية المعنية بعمليات الاستجواب في الكونغرس. فقبل التصديق على المساعدات، فإنّ هذه اللجنة تدرس تقارير المخابرات الأميركية حول أعمال السلطة الفلسطينية وحركات المعارضة الفلسطينية، فضلاً عن طبيعة وفعالية الإجراءات التي تقوم بها لضمان أمن «إسرائيل»، بما في ذلك المستوطنين وجنود الاحتلال» العمد وعورتاني 1999 ص. ص 67 70 .
ثانياً: بناء على ذلك تحدّد الولايات المتحدة المعايير والأهداف التي عليها تقدم دعمها للفسطينيين، وهي تشمل:
ـ مشاركة الفلسطينيين في الحرب ضدّ الإرهاب.
ـ تعزيز ديناميات التبعية داخل المجتمع الفلسطيني بما يدعم سياسات الولايات المتحدة.
ـ تقوية دور «إسرائيل» في الشرق الأوسط.
ـ خفض استعدادات الفلسطينيين للمقاومة، وبالتالي خفض توقعاتهم السياسية. نصار إبراهيم 2011 ص. ص 84 85
ثالثاً: لكلّ هذا ولكي يبقى تدفق التمويل والمساعدات متناغماً مع هذه العملية السياسية فإنه كان مشروطاً بالرقابة والمتابعة من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بصورة مباشرة بالإضافة للمموّلين، كما أنّ إقرار مضمون التمويل وخطط التنمية في المناطق الفلسطينية، والموازنة، وتوزعها على القطاعات الاقتصادية المختلفة وتنفيذها كان مشروطا أيضا بموافقة إسرائيل والممولين» المصدر السابق ص 42،41 .
بكلمات غير ديبلوماسية، إنّ أميركا حقيقة «ليست جمعية خيرية» وترامب هنا لا يكذب… وبالتالي فإنّ ما تدفعه أميركا من «مساعدات نزيهة» هي مساعدات غير مجانية، إنما هي مقابل تنازلات وخدمات سياسية محدّدة وليس من أجل السلام أو التنمية أو دياولو ، وحين تتناقض المواقف والاستجابات مع شروطها، فإنها ببساطة تقول: عفواً… ليس من أجل هذا أدفع لكم… عودوا للسياق ونفذوا المطلوب والمتوقع أو سأغلق الحنفية… انسوا موضوع القدس، لقد انتهى، انسوا موضوع حق العودة فهذا ليس مطروحا للنقاش، انسوا موضوع الدولة الوطنية المستقلة… انسوا كلّ هذا… بعد كلّ ذلك وبناء عليه نعدكم ونؤكد لكم ونقسم أيضاً، بأنّ لدينا اقتراح للسلام، وهو بالمناسبة، اقتراح عظيم لكم أيها الفلسطينيون… فعودوا… وحينها ستعود الدولارات…
في هذا السياق وبناء على هذه الحقائق يتحدث ترامب، وبهذا المعنى فإنه بإعلان قطع الدعم عن الفلسطينيين إذا لم يقبلوا بشروطه ويعودوا للمفاوضات وفق ما تحدّده أميركا، فإنه يقوم بردّ فعل طبيعي لحماية استثماره الاقتصادي في السياسة، فالتمويل هنا هو أولاً وعاشراً سياسي وليس خيرياً…
من لا يعجبه ذلك من حقه أن يرفض طبعاً، وحينها عليه أن لا يطالب أو ينتظر استمرار ذلك الدعم أو يتعجّب أو يغضب لأنه توقف.
إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فعلاً، فماذا بإمكان الفلسطينيين أن يفعلوا؟
بسيطة: أن لا يطلبوا أو ينتظروا مساعدات أميركا الواضحة في شروطها وأهدافها السياسية المناقضة لحقوقهم ومصالحهم الوطنية، وأن يتوقفوا عن لومها لأنها تريد مقابل أموالها ثمناً سياسياً لم تقم بإخفائه يوماً… ليذهبوا لخيارات أخرى… خيارات هم بالتأكيد يعرفونها جيداً.
أقصد أن لا ينسى أحد أو يتجاهل، بوعي أو بدونه، البديهة الثابتة: أنّ الاقتصاد ما هو إلا سياسة ولكن بلغة الأرقام، كما هي الحرب بالضبط سياسة ولكن بوسائل أخرى… هذا ما يقوله الاقتصاد السياسي.
وبالعودة للمثل الإنجليزي الذي ابتدأنا به هذه المقالة، المطلوب من العازف إذن، وقبل أن يقبض الثمن أن يسأل أولاً عن اللحن وبعدها يقرّر هل سيعزف أم لا! أليس كذلك؟