تتصدّر مسألة إيجاد موارد مالية خارجية سلّم أولويات الحكومة التركية الساعية إلى تحقيق تحسّن في الوضع المعيشي في البلاد، على أعتاب الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها في نهاية آذار (مارس) المقبل. جذب الاستثمارات وإيجاد الموارد دفعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأركان حكومته إلى طرق كل الأبواب الممكنة لجذب الاستثمارات الأجنبية، وتنشيط الحركة التجارية كوسيلة ناجحة للتخفيف من الأعباء التي تسببت بها خطوات “العودة إلى السياسات العقلانية” التي بدأت برفع أسعار الفائدة بوتيرة سريعة وقفزات عالية خلال النصف سنة الأخيرة.
جولات خارجية من دون نتائج ملموسةقام المسؤولون الاقتصاديون الأتراك خلال الربع الأخير من العام الحالي بالتنقّل بين عواصم العالم بهدف العثور على موارد خارجية لتركيا. فقد التقت رئيسة البنك المركزي التركي حافظة غاية إركان، خلال حضورها الاجتماع السنوي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مراكش قبل شهرين، رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول. كما أجرت لقاءات في إطار اتصالاتها هناك بدوائر التمويل والاستثمار الدولية مثل بلاك روك، وجي بي مورغان، ودوتشيه بنك، وباركليز. وعقد وزير الخزانة والمالية التركي محمد شمشيك اجتماعات مع المستثمرين الدوليين في لندن، قبل توجهه إلى مراكش التي انتقل منها إلى باريس ومن ثم زار كلاً من الدوحة وأبو ظبي والرياض للقاء المستثمرين الخليجيين والأجانب. ورغم التصريحات الإيجابية التي رافقت الجولات المكوكية للوزير شمشيك ورئيسة البنك المركزي إركان، والمنشورات المتفائلة بنتائجها عبر حساباتهما الشخصية، إلا أن حالة الجمود وغياب الاستثمارات الأجنبية بقيت سائدة مهددة بزعزعة سعر الليرة التركية نتيجة النزيف المتواصل لاحتياطي المركزي التركي من الذهب والعملات الأجنبية.أردوغان في زيارات اقتصادية لأوروبابالتزامن، زار الرئيس التركي عدداً من العواصم في مناسبات مختلفة، سواء للمشاركة في قمم ومؤتمرات إقليمية ودولية كما الحال بالنسبة إلى كازاخستان وأوزباكستان والسعودية والإمارات وقطر، أو بدعوة من زعمائها كما في زياراته للجزائر وألمانيا واليونان. وإن اختلفت وجهات هذه الزيارات وعناوينها، لكنها التقت جميعاً تحت عنوان “تطوير العلاقات الاقتصادية” و”البحث في المشاريع المشتركة” و”تنشيط التجارة والسياحة”، وذلك استكمالاً لمساعي ترميم الاقتصاد قبيل الانتخابات البلدية المقبلة. ويرى الدبلوماسي التركي السابق، وعضو مجلس الحزب الشيوعي التركي أنغين سولاك أوغلو، في تصريحات إلى “النهار العربي”، أن “الهدف الأساسي من زيارة أردوغان لليونان كان الحاجة التركية إلى موارد اقتصادية، بالإضافة إلى مسألة الطائرات الحربية الأميركية التي ترغب تركيا باقتنائها وتصطدم بفيتو يوناني”. وشهدت زيارة أردوغان لأثينا بعد انقطاع لمدة 6 سنوات، التوقيع على سلسلة من الاتفاقيات، والحديث عن “الأجندة الإيجابية” والتطرق إلى التضامن ضمن نطاق الناتو وتطوير التعاون في مجالي السياحة والتجارة. ويشير سولاك أوغلو، كاتب العمود في صحيفة “صول” التركية، إلى أن “مسار العلاقات بين تركيا واليونان يخلق دائماً إثارة على ضفتي بحر إيجه. لكن، بما أن أنقرة تعاني عموماً المشكلات الدبلوماسية، فإن هذه الإثارة تكون محسوسة أكثر في أثينا، التي تعيش في واقع دبلوماسي أكثر أماناً نسبياً”. قد يكون هذا الأمان النسبي خلف التمسّك اليوناني باللغة التقليدية لمخاطبة أنقرة لناحية تأكيد القانون الدولي وشرعية الأمم المتحدة في ما يخص القضايا العالقة بين الجانبين من مسألة الجزر محل النزاع والمنطقة الاقتصادية الخالصة ومستقبل جزيرة قبرص. واضطر الرئيس التركي، تحت ضغط الحاجة الاقتصادية، إلى التراجع عن مواقفه الحادة ضد اليونان، إذ أعرب لصحيفة “كاثيمرني” اليونانية خلال لقاء معه قبل الزيارة عن “مدى حبّه وتقديره لليونان”. وردّ على استفسار الصحيفة عن تهديداته السابقة بمهاجمة اليونان على حين غرّة بالقول: “كنت أقصد الإرهابيين الذين يهددون أمننا وليس اليونان، بالإضافة إلى ذلك لا مشكلة لا يمكن حلها بين البلدين”.
ألمانيا معتادة على الخطابات الحادة غير الواقعيةصورة أردوغان خلال زيارته لألمانيا لم تكن بالهدوء والسلام اللذين ظهر فيهما في اليونان. فقد أطلق تصريحات نارية من العاصمة الألمانية شكّلت مادة دسمة للإعلام التركي والعالمي لأيام متواصلة، حينما انتقد القوانين الألمانية المتعلّقة بضرورة الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، مذكّراً بأن بلاده لم تقم بقتل اليهود لذا فهي متحررة من عقدة الذنب التي تسود ألمانيا. وعلى الرغم من تركيز أردوغان على المسألة الفلسطينية في زيارته، إلا أن سولاك أوغلو يرى أن “هذه الزيارة لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية. فثمة علاقات تجارية واقتصادية عميقة الجذور وشاملة بين تركيا وألمانيا. رأس المال الألماني يملك استثمارات كبيرة في تركيا. من ناحية أخرى، يعيش أكثر من 3 ملايين شخص من أصول تركية في ألمانيا وجزء كبير منهم مواطنون ألمان. كل هذه العناصر تجعل العلاقات التركية الألمانية مميزة. وعدم إلغاء ألمانيا الزيارة (المجدولة مسبقاً) رغم الخلاف الشديد بشأن فلسطين دليل ملموس على ذلك”.
سولاك أوغلو. ويشرح سولاك أوغلو أن “هناك بعدين مهمين في العلاقات بين ألمانيا وتركيا، واتفاقية الاتحاد الجمركي والهجرة. برلين راضية عن سياسات أردوغان بشأن الهجرة وتأمل استمرارها، بخاصة أن “صرامة” أردوغان في السياسة الخارجية تبقى دائماً في المستوى الخطابي، يصرخ، لكن في النهاية كل تصرفاته تتماشى مع مصالح ألمانيا خاصة ورأس المال الغربي عامةً”. ويضيف: “كنت أتوقع أن يتجنّب أردوغان الدخول في معارك بعد فوزه بالانتخابات، وبخاصة مع الغرب وحلفائه في المنطقة. السبب الرئيسي لذلك هو حاجة الاقتصاد التركي للموارد. لذا، سيكون تفسير زيارته لألمانيا ضمن هذا الإطار أكثر واقعية”.
سفن تجاريّة لإسرائيل وخطابات لغزة وفي الداخل التركي تتزايد ردود الفعل الشعبية الرافضة لمواصلة أنقرة علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب، واستمرار الحركة التجارية بين البلدين، إذ تجاوز وزن الحمولة المنقولة من الموانئ التركية إلى الموانئ الإسرائيلية 4 ملايين طن منذ انطلاق حرب غزّة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بحسب الوثائق التي نشرها “النهار العربي” في مقالة سابقة. وعلى الرغم من التصريحات التركية العالية السقف ضد إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، والتشديد الدائم على ضرورة محاكمته كمجرم حرب، إلا أن الرئيس التركي صاحب المقولة أكد في تصريح سابق عدم نيّته قطع العلاقات مع إسرائيل. ويرجع معظم المحللين تمسّك أنقرة باستمرار العلاقات التجارية والقائمة أساساً عبر شركات وجهات مقرّبة من السلطة أو مملوكة من أبناء المسؤولين، إلى الضائقة الاقتصادية التي تجتاح البلاد، ودنو موعد الانتخابات. وكما هي الحال بالنسبة إلى إسرائيل، فإن علاقة تركيا مع “حماس” لها أيضاً دوافعها الاقتصادية بالنسبة إلى أنقرة، بالإضافة إلى فوائدها في السياستين الداخلية والخارجية. فقد نجح أردوغان، الداعم لـ”حماس” بخطاباته السياسية في تحويل تركيا إلى “مركز مالي” للحركة التي تتلقى الأموال من جهات مختلفة وعلى رأسها قطر وإيران، ناهيك بالشبكة المالية التي أسستها في تركيا، والتي تدر عليها فوائد وأرباحاً مالية. وتتحدث التقارير الاستخبارية الأخيرة بشكل واسع بعد 7 تشرين الأول عن الدور الذي تلعبه البنوك والشركات التركية في الأنشطة المالية لـ”حماس”، ما أدّى إلى فرض عقوبات أميركية وغربية على بعض الشخصيات والشركات في تركيا، بالإضافة إلى التحذيرات من تطوّر هذه الإجراءات وتحوّلها إلى عقوبات اقتصادية شاملة في حال استمرار الوضع القائم. ليس من المعلوم ما إن كانت هذه المساعي ستثمر في النهاية انفراجات اقتصادية، لكن المراقبين الأتراك يشككون في إمكان جذب الاستثمارات الأجنبية إلى تركيا بسبب التذبذب في الخطاب السياسي والتعارض في المواقف السياسية، أضف إلى ذلك التوترات التي لم تعد تهدأ في محيط تركيا المباشر من حرب أوكرانيا وروسيا وبعدها أذربيجان وأرمينيا، والآن حرب غزة التي تعتبر التهديد الأكثر خطورة على المنطقة حالياً.