مأمون فندي
ما الزاوية التي يمكن الكتابة عنها بشأن المواجهة الكارثية بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بحضور نائب الرئيس الأميركي ج. د. فانس؟ كُتب كثير عن دبلوماسية تلفزيون الواقع التي يتبعها ترمب مع زائريه، وعن المحادثات العلنية المفاجئة أمام الكاميرات، أو ما يُعرف بدبلوماسية لعبة البوكر، حيث كرّر الرئيس الأميركي لنظيره الأوكراني أنه لا يملك أوراقاً رابحة، وأنه يقامر ببلاده، بل ذهب إلى حد القول إنه قد يقامر بحرب عالمية ثالثة. هذه الجملة، التي قد تمر مرور الكرام في الإعلام، تعني الكثير عندما تصدر عن رئيس أقوى دولة في العالم. وهنا تكمن نقطة الانطلاق لتحليل تبعات ما جرى على أمن أوروبا، خاصة في ظل التزام الرئيس الأميركي هاري ترومان بأمن القارة، بعد توقيع اتفاق حلف الناتو في 4 أبريل (نيسان) عام 1949، ولا سيما المادة الخامسة من الاتفاق، التي تنص على أن أي اعتداء على دولة أوروبية عضو في الحلف يُعدّ اعتداءً على الولايات المتحدة.
لكن بعد ما حدث في المواجهة بين زيلينسكي وترمب في البيت الأبيض، هل لا يزال الأوروبيون يؤمنون بالتزام الولايات المتحدة بالمادة الخامسة؟
المادة الخامسة من معاهدة الناتو هي أساس اتفاقية الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة ودول أوروبا، وتم تفعيلها لأول مرة بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. تنص المادة على أن «يتفق الأطراف على أن أي هجوم مسلح ضد واحد أو أكثر منهم في أوروبا أو أميركا الشمالية سيُعدّ هجوماً ضدهم جميعاً. وبناءً على ذلك، يلتزم كل منهم، في حال وقوع مثل هذا الهجوم، بمساعدة الطرف أو الأطراف المعتدى عليها فوراً، بشكل فردي أو بالتنسيق مع الأطراف الأخرى، باتخاذ الإجراءات التي يراها ضرورية، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، لاستعادة الأمن وإعادة الاستقرار في منطقة شمال الأطلسي».
وقد التزم الأوروبيون بهذا المبدأ بوضوح بعد هجمات 11 سبتمبر، حيث شاركوا في العمليات العسكرية في أفغانستان والعراق.
ومع ذلك، فإن متابعة الصحافة الأوروبية وتصريحات المسؤولين الأوروبيين تكشف عن شكوك متزايدة بعد موقف ترمب من الأزمة الأوكرانية وانعكاساته على بقية دول أوروبا.
لتبسيط الموقف الأوروبي للقارئ العربي، يمكن القول إن ترمب يحاول خلق شرخ بين روسيا والصين، عبر إبعاد موسكو عن بكين، في خطوة تُشبه المحاولات العربية لإبعاد سوريا عن إيران خلال حكم الأسد. وكما كان من شأن إضعاف العلاقة بين سوريا وإيران تقليل النفوذ الإيراني في المنطقة، فإن إبعاد روسيا عن الصين سيُضعف من الهيمنة الصينية المتصاعدة في السياسة الدولية. لكن الأوروبيين، خاصة فرنسا وألمانيا، يعتقدون أن ترمب يسعى إلى استمالة بوتين عبر تقديم أوكرانيا كقربان.
سواء أكان هذا التقدير الأوروبي صحيحاً أم لا، فإن السياسة الدولية تُبنى على الانطباعات أكثر من الحقائق، كما قال أستاذنا غراهام أليسون. واليوم، الانطباع الأوروبي العام يُوحي بتخوف شديد من نهج ترمب وطريقته في عقد الصفقات، التي قد تكون ناجحة في عالم المال، لكنها كارثية في عالم السياسة.
أما ما يزيد الموقف تعقيداً، فهو أنه قبل اجتماع البيت الأبيض، كان هناك تفاؤل حول صفقة محتملة تتعلق بسيطرة الولايات المتحدة على الثروات المعدنية الأوكرانية، ما كان سيشكل بوليصة تأمين لاستقلال أوكرانيا وإبعادها عن النفوذ الروسي. لكن هذا التفاؤل انهار خلال 10 دقائق فقط من المواجهة بين زيلينسكي ونائب الرئيس الأميركي فانس، وهو ما دفع ترمب إلى تصعيد الأمور إلى حافة الكارثة.
النقطة الأساسية هنا هي أن أي مفاوضات قد تنهار في دقائق معدودة، حتى لو كانت ثمرة سنوات من العمل الدبلوماسي. فقد كان من المقرر أن يوقع زيلينسكي الاتفاق في كييف، ثم تملص من التوقيع، ثم عاد وقال إنه سيوقع في جنيف ولم يفعل، ثم أجّل التوقيع إلى زيارته للبيت الأبيض، التي انتهت بالانهيار التام للمفاوضات.
ورغم الموقف الضعيف لزيلينسكي، الذي يُوصف في أوروبا اليوم بأنه القائد الذي امتلك الجرأة للوقوف في وجه ترمب وفانس، فإن هذا لم يبدد المخاوف الأوروبية العميقة بشأن مستقبل الناتو. فاليوم، لم تعد أوكرانيا هي القضية الرئيسية، بل أمن أوروبا بالكامل أصبح في مهبّ الريح. أو في أفضل الأحوال، أصبح مصدر قلق وتكهنات، ما يتطلب جهوداً دبلوماسية مكثفة لإصلاح الضرر الذي لحق بالنظام الدولي للسلام والأمن داخل المكتب البيضاوي.