ترمب يرفع “كأس السلام المرير” فهل تملك أوروبا رده؟

4

تنظر غالبية دولها إلى خطة التسوية الأميركية في أوكرانيا باعتبارها مكسباً استراتيجياً لروسيا ومأزقاً وجودياً للقارة يضعف حججها لبناء منظومة أمنية جديدة

سعيد طانيوس كاتب لبناني

تكشف الخطة النقاب عن اتفاق ترمب وبوتين السري الذي يُشتبه في التفاهم على خطوطه العريضة خلال “قمة ألاسكا” (أ ف ب)

ملخص
سياسياً، يتخوف الأوروبيون من اتفاق ثنائي بين واشنطن وموسكو قد يأتي على حساب المصالح الأوكرانية وأيضاً على حساب مصالحهم وطموحاتهم.

أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سلسلة تصريحات تصعيدية انتقد فيها المواقف الأوروبية من الحرب في أوكرانيا وخطة التسوية الأميركية، معتبراً أن “المطالب الأوروبية غير مقبولة بالنسبة إلى روسيا”، وأن الأوروبيين “ليست لديهم أجندة سلمية بل هم في صف الحرب”، وأشار إلى أنهم “يفكرون في فرضية إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا ويعيشون في هذه الأوهام”.

وقال بوتين إن أحداً لم يطلب من أوروبا الانسحاب من مسار المفاوضات في شأن أوكرانيا، موضحاً أن “الأوروبيين أنفسهم أوقفوا الاتصالات مع روسيا”، واتهم القارة العجوز بأنها “تشكل عائقاً أمام الإدارة الأميركية في تحقيق السلام في أوكرانيا”، مضيفاً أن “كل التغييرات التي تقترحها أوروبا على خطة السلام تهدف إلى عرقلة العملية”.

وأوضح بوتين “حتى عندما يحاولون إدخال بعض التعديلات على اقتراح ترمب نرى بوضوح أن كل هذه التعديلات تهدف إلى هدف واحد هو عرقلة عملية السلام برمتها من خلال فرض مطالب غير مقبولة إطلاقاً من جانب روسيا”.

وأضاف بوتين في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أثناء لقاء جمعه بالمبعوثين الأميركيين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في إطار محادثات التوصل إلى تسوية للحرب في أوكرانيا “روسيا قد تدرس اتخاذ تدابير مضادة تجاه السفن التابعة للدول التي تساعد أوكرانيا في أعمال القرصنة”، محذراً في الوقت نفسه من أن “بلاده يمكنها عزل أوكرانيا عن البحر تماماً إذا استمرت قرصنتها”.

وفي ما يتعلق بإمكان توسع النزاع، شدد بوتين على أن “روسيا لا تنوي خوض حرب مع الدول الأوروبية، لكن إذا بدأت أوروبا حرباً فنحن مستعدون لها”.

أسبوع حاسم
سياسياً، يتخوف الأوروبيون من اتفاق ثنائي بين واشنطن وموسكو قد يأتي على حساب المصالح الأوكرانية وأيضاً على حساب مصالحهم وطموحاتهم. ويقول زيلينسكي إنه ينتظر مناقشة “قضايا أساسية” مع الرئيس الأميركي، بينما يشير كبير المفاوضين الأوكرانيين رستم عمروف إلى أن الخطة الأميركية تتضمن تقدماً مهماً لكنها لا تزال بحاجة إلى تعديلات إضافية.

وفي بروكسل، اعتبرت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، أن هذا الأسبوع قد يكون “حاسماً”، وذلك عقب اجتماع وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي.

والأحد الـ30 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عقدت الولايات المتحدة وأوكرانيا اجتماعاً ثنائياً في فلوريدا لبحث المسودة الأميركية المؤلفة من 28 بنداً. وكانت واشنطن قدمت المسودة قبل نحو 10 أيام من دون مشاركة الأوروبيين، مما أثار حفيظة العواصم الأوروبية لأنها أخذت في الاعتبار كثيراً من المطالب الروسية، وبعد نقاشات موسعة مع كييف والعواصم الأوروبية تخضع الخطة الآن لمراجعة جديدة.

AFP__20250815__2230343437__v4__MidRes__USPresidentTrumpAndRussianPresidentPutinMeetO.jpg
نحن أمام واحدة من أكثر المبادرات جدية، وهو السبب في أن أوروبا وواشنطن تتصارعان بشدة (أ ف ب)

ووصف الجانبان الأميركي والأوكراني المباحثات بأنها كانت “مثمرة”، فيما أقر وزير الخارجية ماركو روبيو بأن التوصل إلى صيغة نهائية لا يزال يتطلب “عملاً إضافياً”.

وفقاً لموقع “ريسبونسيبل ستيتكرافت”، تسعى دول أوروبية إلى عرقلة المبادرة الأميركية لتسوية النزاع في أوكرانيا، ومواصلة التصعيد العسكري مع روسيا. وقال الموقع “يبدو أن أوروبا هدفها ليس التوصل إلى سلام أفضل بل تخفيف خطة الولايات المتحدة تدريجاً حتى تصبح غير مقبولة بالنسبة إلى موسكو، وهو ما من شأنه أن يضمن العودة إلى السيناريو الأصلي: نزاع مطول وربما لا نهائي، على رغم أن الوضع الحالي على أرض المعركة يصب في مصلحة روسيا، ويثقل كاهل أوكرانيا أكثر فأكثر وينهك مواردها البشرية والعسكرية”.

وأشار المقال إلى أن ممثلين عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأوكرانيا عقدوا في جنيف جولة من المحادثات ناقشوا خلالها التعديلات التي اقترحتها الأطراف الأوروبية والأوكرانية على الخطة الأميركية، ونشرت وكالة “رويترز” وصحيفة “ذي تلغراف” نسختين مختلفتين من هذه التعديلات.

حسب إحدى الروايتين، يقترح الاتحاد الأوروبي – من بين إجراءات أخرى – تحديد قوام القوات المسلحة الأوكرانية عند 800 ألف فرد، بينما تشير الرواية الثانية إلى غياب أية قيود على عددها.

اقرأ المزيد

بوتين يهدد بمنع أوكرانيا من الوصول إلى البحر

أردوغان: الحرب بين روسيا وأوكرانيا تهدد سلامة الملاحة في البحر الأسود

تركيا تناشد روسيا وأوكرانيا إبعاد ضرباتهما من البنى التحتية للطاقة

هل يوشك ستيف ويتكوف على إبرام صفقة سلام في أوكرانيا؟
وفي ما يتعلق بمحطة زابوريجيا للطاقة النووية أفادت “رويترز” بأن الاقتراح يقضي بإعادة تشغيل المحطة تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتوزيع الكهرباء المنتجة بالتساوي بين روسيا وأوكرانيا، أما مشروع “ذي تلغراف” فينص على وضع المحطة بالكامل تحت سيطرة سلطات كييف.

كذلك تباينت التقارير حول وجود القوات الأجنبية، فبحسب أحد المصادر يتضمن المشروع الأوروبي حظر نشر قوات “الناتو” في أوكرانيا خلال فترات السلام، بينما تترك النسخة الأخرى القرار النهائي في شأن وجود قوات أجنبية لسلطة كييف.

في الوقت نفسه، أشار كلا المصدرين إلى أن المشروع الأوروبي يقترح إنهاء النزاع وفق خطوط الجبهة الحالية، وهو ما يتناقض مع البند المركزي في الخطة الأميركية، الذي ينص على تبادل بعض الأراضي وانسحاب القوات الأوكرانية من منطقة دونباس.

فرص إنهاء الحرب
من جهته، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، على مضض، أن “فرص إنهاء الحرب أصبحت الآن أفضل من أي وقت مضى”، مؤكداً استعداده للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ومحذراً في الوقت نفسه من أن “قرار إنهاء الحرب لن يكون سهلاً، ولا يجب أن تُدار أية ألاعيب من وراء ظهر أوكرانيا”.

وأضاف زيلينسكي أنه يأمل عقد لقاء مع ممثلين عن الإدارة الأميركية “في أقرب فرصة ممكنة” عقب محادثات موسكو، محذراً من أن الأخيرة تحاول استغلال المفاوضات للضغط من أجل تخفيف العقوبات المفروضة عليها.

ويواجه زيلينسكي أيضاً ضغوطاً داخلية بعد استقالة كبير موظفي الرئاسة أندري يرماك إثر فضيحة فساد.

وعقد الرئيس الأوكراني مطلع ديسمبر الجاري اجتماعاً في باريس مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أكد خلال اللقاء أن الأوروبيين لا يزالون في حال “استنفار” من أجل تحقيق “سلام عادل ودائم”. ورحب بالجهود الأميركية، لكنه شدد على أن “لا خطة مُنجزة” بالمعنى الدقيق حتى الآن، وأن أية تسوية نهائية تحتاج إلى حضور الأوروبيين حول الطاولة.

AFP__20250815__2230343728__v4__MidRes__USPresidentTrumpAndRussianPresidentPutinMeetO.jpg
قال بوتين إن أحداً لم يطلب من أوروبا الانسحاب من مسار المفاوضات في شأن أوكرانيا” (أ ف ب)

وبعد الاجتماع، أجرى ماكرون اتصالاً بالرئيس الأميركي تناول “الضمانات الأمنية” و”شروط إرساء سلام قوي ودائم”، وفق “الإليزيه”.

وكتب وزير الخارجية الأوكراني أندريه سيبيها على “إكس”، “لليوم الثاني على التوالي، أدلى بوتين بتصريحات تُظهر أنه لا ينوي إنهاء الحرب”، وقال “أعلن بوتين أمس استعداده للقتال طوال فصل الشتاء، واليوم يهدد الموانئ وحرية الملاحة، وهذه التهديدات موجهة بالدرجة الأولى إلى أوديسا، التي تحدث عنها الرئيس ترمب بحماسة كبيرة. على روسيا أن تضع حداً لسفك الدماء الذي بدأته، إذا لم يحدث ذلك، وبصق بوتين في وجه العالم مرة أخرى، فستكون هناك عواقب حتمية. على روسيا أن تتوقف عن إضاعة وقت العالم، الذي ينبغي أن يكون وقت السلام، نحن ندعم تماماً جميع الجهود المخلصة التي يمكن أن تؤدي إلى سلام عادل”.

وأضاف “لقد عمل الفريقان الأوكراني والأميركي، بالتعاون مع شركائنا الأوروبيين، بجد وحققا تقدماً كبيراً، الآن هو الوقت المناسب لإعادة إرجاع بؤرة الحرب إلى موسكو لوضع حد لها”.

وقبيل اجتماع المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف في “الكرملين” مع الرئيس فلاديمير بوتين، وسط تصعيد ميداني روسي ومساعٍ دبلوماسية متسارعة إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا. أعلن الرئيس الأميركي أنه “متفائل جداً” بقرب التوصل إلى اتفاق يضع حداً للنزاع المستمر منذ أربعة أعوام. وقالت المتحدثة باسم “البيت الأبيض” كارولاين ليفيت، إن الرئيس وفريقه “عملوا بجهد” على هذا الملف، ويأملون رؤية نهاية واضحة للحرب.

وقال ترمب خلال اجتماع حكومي في “البيت الأبيض”، “يزور ويتكوف وكوشنر روسيا لمعرفة إن كان بإمكاننا إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وهي حرب ليست بالسهلة، بل كارثة حقيقية، إنها حرب ما كانت لتحدث لو كنتُ رئيساً”.

أكبر التوسعات
ميدانياً، تحقق القوات الروسية أكبر توسع لها منذ عام، وبحسب تحليل أجرته وكالة الصحافة الفرنسية استناداً إلى بيانات “معهد دراسة الحرب” المتعاون مع “مشروع التهديدات الحرجة”، سيطرت روسيا خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي على 701 كيلومتر مربع، في ثاني أكبر تقدم وتوسع لها منذ نوفمبر 2024 (725 كيلومتراً مربعاً)، باستثناء الأسابيع الأولى للحرب في فبراير (شباط) 2022.

وأعلنت موسكو مطلع ديسمبر الجاري سيطرتها على مدينة بوكروفسك شرق البلاد، وهي خط إمداد رئيس للقوات الأوكرانية، لكن كييف أكدت أن القتال لا يزال مستمراً داخل المدينة، وأن القوات الروسية تراجعت بعد رفع علمها.

وفي الشهر نفسه سجلت روسيا زيادة جديدة في وتيرة الهجمات الليلية، إذ أطلقت 5600 صاروخ ومسيرة، بارتفاع نسبته اثنان في المئة عن الشهر السابق.

لماذا تعارض أوروبا الخطة الأميركية للسلام؟

الخطة مؤلفة من 28 بنداً، وتعد الأكثر جدية منذ بدء الحرب في أوكرانيا، لكن أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) يشتبهون بمراعاتها مطالب وأهداف روسيا من الحرب، نظراً إلى السياق المعقد الذي سبق طرحها، بما في ذلك الاتفاق السري المشتبه فيه بين الرئيسين الأميركي والروسي خلال “قمة ألاسكا”.

وتنظر غالبية الدول الأوروبية المنضوية في حلف “الناتو” إلى الخطة باعتبارها مكسباً استراتيجياً لروسيا ومأزقاً وجودياً لأوروبا، لأنها تُضعف حججها لبناء منظومة أمنية جديدة قائمة على التخويف من موسكو.

AFP__20251206__87AT3KE__v1__MidRes__UkraineRussiaConflictWar.jpg
احتمال التوصل إلى تسوية بشروط “عادلة” بالنسبة إلى كييف بات مستبعداً (أ ف ب)

ويحاول الأوروبيون تجاهل التقدم الميداني للقوات الروسية خلال الشهر الأخير، وما منحه من شروط تفضيلية ويد عليا لـ”الكرملين” على طاولة التفاوض، ويضاف إلى ذلك تغاضيهم عن التوترات السياسية داخل كييف، وفضائح الفساد الملتهبة في العاصمة الأوكرانية، وتصاعد الهلع الأوروبي مقابل انفتاح واشنطن وموسكو على التفاوض. ويبرزون في خلاصة موقفهم أن خطة السلام الأميركية لأوكرانيا مؤلمة، وأن تداعياتها لن تطاول كييف وحدها، بل ستعيد رسم التوازنات في أوروبا وداخل “الناتو” أيضاً.

في واقع الأمر إذا كان هناك طريق يؤدي إلى تسوية تعيد السلام إلى أوكرانيا، فنحن أمام واحدة من أكثر المبادرات جدية، وهذا هو السبب في أن أوروبا والولايات المتحدة تتصارعان بشدة.

فبينما تضع خطة السلام أو المسودة الأميركية أوكرانيا وأوروبا في مأزق، فإنها تكشف أيضاً النقاب عن اتفاق ترمب وبوتين السري الذي يُشتبه في التفاهم على خطوطه العريضة خلال “قمة ألاسكا”.

ويسعى الجميع الآن إلى المضي قدماً من خلال دراسة الخطة المكونة من 28 بنداً، لكن السيناريو الحقيقي في مكان آخر، فإذا تم تنفيذ الشروط التي يفرضها “سلام ترمب” فسيزول التهديد الروسي. وعلى رغم أن الاحتمال كان ضعيفاً في الأساس، فإن الاتفاق سيضمن ألا تهاجم موسكو أوروبا. وبهذا لن يكون هناك أي مبرر للهندسة الأمنية الجديدة التي تحاول أوروبا بناءها عبر ترهيب مجتمعها وجباية مزيد من الرسوم والضرائب من المكلفين بحجة توفير الأمن والأمان لهم.

وهذا سيقطع الطريق الوحيد لإحياء المجال الاقتصادي الأوروبي، وبالطبع سيكون لذلك تبعات سياسية، بل وتداعيات على حلف “الناتو”، لهذا السبب تحديداً عارضت المملكة المتحدة الخطة في البداية، تبعتها ألمانيا وفرنسا ودول أوروبية عدة أخرى، وأسباب تقديمهم اقتراحات مخففة مكونة من 24 بنداً كخطوة مضادة تكمن في ذلك أيضاً.

وإذا تطورت الأحداث على هذا النحو فسيكون لها انعكاسات مثيرة للاهتمام، ليس على أوروبا وحدها، بل وعلى الشرق الأوسط أيضاً.

فوز منطق روسيا
أياً كانت تفاصيل التفاهم الذي تم التوصل إليه بين الولايات المتحدة وروسيا في “قمة ألاسكا” في الـ15 من أغسطس (آب) الماضي، بما في ذلك الجوانب المالية، فإنه يلقي بظلاله على أوكرانيا.

كثيراً ما أصرت موسكو في منطقها على أن السلام في أوكرانيا يتطلب القضاء على “الأسباب الجذرية للحرب”، والكل يعلم الآن أن هذا لم يكن مجرد غطرسة من قوة عظمى.

وحتى يومنا هذا لم تكن التطورات البارزة في حرب أوكرانيا تبشر بأي أمل في وقف إطلاق نار، ناهيك بالسلام. وقد طُرحت في مرحلة ما فكرة اجتماع جديد بين ترمب وبوتين في بودابست، لكن الطرفين تملصا من موعد هذه القمة بحجة أنه “لا يوجد شيء قيد الإنجاز، ولا يزال هناك عمل يتعين القيام به”. وفي المقابل حاول ترمب رفع سقف المطالب مرات عدة، فلوّح بالأسلحة وفرض مزيد من العقوبات على أكبر شركتي نفط روسيتين، لكن النتيجة لم تتغير، وبقيت روسيا ثابتة على موقفها.

AFP__20251203__86YD9MA__v1__MidRes__BelgiumNatoDiplomacySummit.jpg
في خلاصة موقفهم يبرز الأوروبيون أن خطة السلام الأميركية لأوكرانيا مؤلمة ومريرة ومكلفة (أ ف ب)

فقد تقدم الروس على الأرض ووسعوا مكاسبهم الميدانية، أما في كييف فقد شهدت الساحة حالاً مستمرة من الاضطراب وعدم التوازن وقضايا فضائح فساد، وصلت إلى استقالة عدد كبير من القادة ووزيري الطاقة والعدل، وغادر بعض رجال الأعمال المقربين من الحكومة البلاد.

وكان أحد التطورات الغريبة المتزامنة إطلاق أوروبا إنذارات عسكرية جوفاء كما لو كانت هي نفسها على وشك الدخول في حرب غداً، حين أعلن رئيس الأركان البلجيكي “لا يمكننا الاستمرار بقواعد فترة السلام”، بينما صرح رئيس وزراء بولندا “نفضل أكل العشب على أن نكون مستعمرة روسية”، ودعا الرئيس الألماني إلى إعادة التجنيد الإلزامي قائلاً “نحتاج إلى مزيد من الجنود”، وأعلن رئيس الأركان العامة الفرنسي “يجب أن نكون مستعدين لخسارة أبنائنا”، وفي برلين نزل الجيش الألماني إلى شوارع ومحطات المترو وأجرى تدريبات على حماية البنى التحتية الحيوية، وأخيراً أطلق الاتحاد الأوروبي “شينغن عسكرياً”، متخذاً قراراً بتسهيل الانتشار السريع وغير المقيد للقوات العسكرية عبر أوروبا.

وندد الممثل الخاص للرئيس الروسي للتعاون الاستثماري والاقتصادي كيريل دميترييف، بـ”هستيريا” الصحافة البريطانية والأوروبية ومحاولاتها عرقلة الحوار الروسي الأميركي، وقال “كلما رأينا عناوين وجملاً هستيرية أكثر، أظهر ذلك تفاني صحافة بريطانيا وأوروبا في إفشال العملية السلمية الماضية قدماً”.

باختصار، كانوا يروجون لوسواس قدوم “الغزاة” الروس.

في منتصف نوفمبر تقريباً، ورداً على هستيريا إثارة الرعب من الروس في أوروبا، أرسل “الكرملين” رسالة مفادها “نحن مستعدون لبدء محادثات السلام مع أوكرانيا”. وعلى عكس المتوقع تجنبت قمة “مجموعة السبع”، التي عُقدت في الـ11 والـ12 من نوفمبر، الانتقادات الحادة لروسيا، وحافظ البيان المشترك على لهجة معتدلة، ولم تقدم أية وعود بأسلحة متطورة وما إلى ذلك لأوكرانيا.

هنا يجب أخذ غياب وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عن اجتماع وزراء خارجية حلف “الناتو” في الاعتبار، والانتباه لكلماته بعد التملص من قمة بودابست المؤجلة، إذ قال “في لقائي الأخير مع نظيري الروسي، اتفقنا على أن اللقاء التالي بين رئيسي بلدينا يجب أن يسفر عن نتائج ملموسة، يجب أن نعرف قبل أن نبدأ المحادثات أن فرصتنا في الحصول على نتائج إيجابية عالية، لا يمكننا إجراء محادثات لمجرد الاجتماع”.

كان هذا هو الموقف الروسي تحديداً، ومن الواضح أن الأميركيين قد أعدوا خطة سلام ملموسة قبل ذلك بكثير، وربما قاموا بتنسيق بنودها سراً مع الروس، لا سيما مع الممثل الخاص للرئيس الروسي للتعاون الاستثماري والاقتصادي، كيريل دميترييف، الذي زار واشنطن مراراً وتكراراً الشهر الماضي، خصوصاً أنه أنهى دراساته العليا في الولايات المتحدة ويتكلم الإنجليزية بطلاقة ويفهم العقلية الأميركية عن ظهر قلب.

وذكرت وكالة “رويترز” أنه تم إعداد هذه “الخطة الصديقة لروسيا”، كما وصفتها، بعيداً من واشنطن، خلال اجتماع عقد في أكتوبر (تشرين الأول) في ميامي بين المبعوث الخاص ستيف ويتكوف، وصهر الرئيس جاريد كوشنر، والمفاوض الروسي كيريل دميترييف.

وسارعت موسكو على الفور للإعلان على لسان “مسؤول رفيع لم يُكشف عن اسمه”، قائلة “القمة ضرورية، يتطلب الأمر تحضيراً دقيقاً وشاملاً، وهذا لن يكون ممكناً إلا إذا التزمت الولايات المتحدة التزاماً صارماً تفاهمات ألاسكا”.

بعد ذلك، صدر تصريح لم نعتد سماعه من الغرب، إذ قال الأمين العام لحلف “الناتو” لصحيفة “التايمز”، إن “الحلف لن يخاطر بالدخول في حرب مع روسيا بسبب أوكرانيا”. في تلك الأثناء كان الروس يحاصرون بوكروفسك التي اعتُبر سقوطها مكسباً ميدانياً يسهم في إنهاء الحرب، لقد كان الواقع الميداني أحد أسس الاتفاق.

AFP__20251204__874C49E__v1__MidRes__UkraineCyprusRussiaDiplomacyConflictWar.jpg
أعلن زيلينسكي، على مضض، أن “فرص إنهاء الحرب أصبحت الآن أفضل من أي وقت مضى” (أ ف ب)

وغداة محادثات جمعت الرئيس فلاديمير بوتين بمبعوثي الرئيس الأميركي ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، أوضح مساعد الرئيس يوري أوشاكوف أن تقدم الجيش الروسي على الجبهة كان له أثر إيجابي في سير المباحثات، مشيراً إلى أن الجانب الأميركي أكد استعداده لبذل قصارى جهده من أجل التسوية في أوكرانيا، وأخذ المقترحات الروسية في الاعتبار.

وكان أوشاكوف أعلن في الـ15 من نوفمبر أن المحادثات مع الولايات المتحدة مستمرة على أساس التفاهمات التي تم التوصل إليها في “قمة ألاسكا”، واصفاً ذلك بأنه “مسار جيد”.

في الوقت ذاته كان زيلينسكي يوقع اتفاق استيراد الغاز الطبيعي عن طريق اليونان في أثينا “استعداداً لشتاء قاس”. وقبل ذلك كان قد اتفق مع فرنسا على الحصول على 100 طائرة “رافال” حربية، لكن لم يسأل أحد من أين سيأتي المال؟ وأثناء ذلك بدأت الصحافة الغربية تركز أكثر على قضايا الفساد في كييف؛ إذ كُشفت سلسلة من الفضائح، من مقاعد المراحيض الذهبية، إلى حزم اليورو التي تفيض من خزائن المطبخ، إلى العلاقات “الوثيقة” مع شركات الأسلحة.

في الـ19 من نوفمبر وصل زيلينسكي إلى تركيا رافعاً شعار “إحياء محادثات السلام”، وقد كان يعلم ما سيُطرح أمامه الآن، وصرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قائلاً “أعتقد أن الحرب تقترب من نهايتها، وسيتم اتخاذ خطوات مهمة”، وبدأت الصحافة الغربية في نشر عناوين مثل “الخطة السرية للولايات المتحدة: واشنطن تشمر عن سواعدها لإنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية”.

في المقابل، وفي توجه لترجيح كفة الخيار العسكري، تعهدت بلدان أوروبية خلال اجتماع وزراء خارجية دول حلف “الناتو” في بروكسل، بتقديم مساعدة عسكرية لأوكرانيا بأكثر من مليار يورو (1.16 مليار دولار) من خلال “مبادرة بورل”، والاستمرار في ضمان تدفق الأموال إلى كييف مع الإصرار على مشاركة أوروبا في أية خطة سلام لضمان نجاحها.

كأس السلام المرير
أخيراً، ظهرت “خطة السلام الأميركية لأوكرانيا” المكونة من 28 بنداً الأربعاء الـ26 من نوفمبر، لقد كانت خطة واسعة النطاق لا تشمل إنهاء الحرب فحسب، بل وإعادة إحياء العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا والهندسة الأمنية الأوروبية، هذا يعني أنها تتضمن إشارات قوية إلى “الأسباب الجذرية”، وكانت نصاً يميل بوضوح لصالح روسيا، حتى إن بعضهم وصفها بـ”اتفاق استسلام”، وعلق زيلينسكي عليها قائلاً “أوكرانيا تمر بأصعب فترة في تاريخها، بلدنا مجبر على اتخاذ خيار صعب، إما أن نفقد سمعتنا، وإما أن نضطر إلى توديع شريك مهم لنا”. وكان نداء الاستغاثة هذا موجهاً إلى أوروبا التي بدت أمام الخطة الأميركية للسلام كمن أسقط في يدها.

تستعد كييف الآن لمواجهة “سلام مرير ومؤلم ومكلف”، ولكن ليس كييف وحدها، بل ومعها أوروبا التي لن يكون لها حق “النقض” على اتفاقات يالطا الجديدة.

فقد دعا الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب إلى الاستعداد لحلول السلام في أوكرانيا، مستبعداً احتمال التوصل إلى تسوية بشروط “عادلة” بالنسبة إلى كييف، وقال يوم الثالث من ديسمبر “تكمن الحقيقة في أنه يجب علينا كفنلنديين الاستعداد كذلك للحظة تحقيق السلام، وأنه من غير المرجح أن تتحقق كل الشروط اللازمة لتحقيق السلام العادل التي تحدثنا عنها كثيراً على مدى الأعوام الأربعة الماضية”. وأضاف أن السلام يمكن أن يكون “إما جيداً أو سيئاً أو شكلاً من أشكال الحلول الوسط”.

أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فطالب بأن يكون إنهاء الحرب بأوكرانيا عادلاً، معتبراً أن أية خطة سلام أو ضمانات أمنية لا يمكن أن تصاغ من دون مشاركة كييف والدول الأوروبية.

AFP__20221125__32TK4Q3__v1__MidRes__FranceDefenceAviationArmy.jpg
كان أحد التطورات الغريبة المتزامنة إطلاق أوروبا إنذارات عسكرية جوفاء (أ ف ب)

ودعا رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، الحلفاء في “الناتو” إلى أن يتذكروا أن الحلف تم إنشاؤه لمواجهة الاتحاد السوفياتي وروسيا، وكتب على منصة “إكس”، “أود تذكير حلفائنا بأنه تم إنشاء (الناتو) للدفاع عن الغرب من العدوان السوفياتي، أي من روسيا، وكان أساسه التضامن لا المصالح الأنانية، آمل ألا يتغير شيء”.

ووصف توسك الوضع الميداني على الجبهة الأوكرانية وفضائح الفساد في كييف، إضافة إلى استقالة أندريه يرماك من منصب رئيس مكتب فلاديمير زيلينسكي، بأنها “مزيج قاتل”.

في المقابل أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن أوروبا بعرقلتها جميع الاتفاقات السابقة استبعدت نفسها من مفاوضات السلام الأوكرانية. واعتبر سفير روسيا لدى بلجيكا دينيس غونشار أن العالم يشهد حالياً أخطر أزمة أمنية عالمية منذ الحرب العالمية الثانية بسبب استمرار انتهاك مبادئ المساواة في السيادة وخرق عدم استخدام القوة وتجاوز عدم التدخل في شؤون الآخرين.

دبلوماسية غير تقليدية
وأفادت وكالة “رويترز” أن ترمب راهن على “دبلوماسية غير تقليدية”، مما أدى فعلياً إلى تهميش المسؤولين الحكوميين المحترفين وإبعادهم من حل الصراع العالمي، مكتفياً بالمقربين منه مثل ستيف ويتكوف وصهره جاريد كوشنر. وأشارت إلى أن النهج الحالي لـ”البيت الأبيض” يتسم بالمجازفة الكبيرة، إذ تُسند الأدوار الرئيسة ليس إلى متخصصي وزارة الخارجية، بل إلى أصدقاء الرئيس الشخصيين في قطاع العقارات، مما يثير غضب الجمهوريين وذعر الحلفاء الأوروبيين.

وتعترف إدارة ترمب صراحة بأنها تتجاهل عمداً الدبلوماسيين التقليديين، وتعتبرهم غير أكفاء، ونقلت الوكالة أن “مسؤولاً أميركياً كبيراً قال إن استخدام إدارة ترمب أشخاصاً من خارج الإدارة مثل ويتكوف كان ناجحاً، في حين أن متخصصي السياسة الخارجية في واشنطن لديهم سجل حافل بالفشل”.

وبحسب الوكالة، جاءت الوثيقة المكونة من 28 نقطة بمثابة مفاجأة تامة حتى لكبار المسؤولين الأميركيين والأوروبيين: لم يعلم بها كثير من موظفي مجلس الأمن القومي إلا من الإعلام، وبلغ الوضع حداً من العبث اللامعقول، إذ تلقت القائمة بأعمال السفير الأميركي في كييف جولي ديفيس، التي بالكاد علمت بالخطة بنفسها، تعليمات عاجلة لإطلاع وزير الجيش دان دريسكول عليها قبيل اجتماعه مع الأوكرانيين.

واعتبر المحلل السياسي الأميركي غراهام فولر، أن واشنطن لم تعد مستعدة لاحترام إرادة كييف وبروكسل، اللتين تعرقلان التوصل إلى اتفاق سلام، لذلك ستلجأ واشنطن إلى إجراءات أكثر صرامة. وقال “أتذكر كلمات فيكتوريا نولاند، التي قالت عام 2014 (فليذهب الاتحاد الأوروبي إلى الجحيم). أعتقد أن هذه العبارة لا تزال مناسبة تماماً، فأوروبا في نهاية المطاف لا تملك مالاً ولا جيشاً ولا أسلحة قوية ولا خطة، يبدو أنها لا تعرف من هي، ولا إلى أين تتجه، ولا ما هدفها النهائي، أتساءل كم من الوقت سيستغرق ترمب ليتقبل كلمات نولاند عن ذهاب الاتحاد الأوروبي إلى الجحيم؟”.

واعتبر أن محاولات بروكسل وكييف حددت بالفعل توجه واشنطن الجذري تجاههما، مشيراً إلى أن رأس نظام كييف يفتقر حالياً إلى أية سلطة، ويؤدي دور الممثل الإضافي، متسائلاً “ماذا بوسع أوروبا أن تفعل؟ بإمكانهم الصراخ والاستجداء، لكنني لا أعرف إن كانوا قادرين على عرقلة معاهدة سلام تدعمها الولايات المتحدة بجدية. زيلينسكي في وضع حرج، ليس لديه أوراق رابحة في هذه اللعبة، إذا قال ترمب (أوقفوا النزاع) فسيتعين عليه إيقافه، لذا أتساءل متى سيقول ترمب (فليذهب الاتحاد الأوروبي إلى الجحيم)، أو (فليذهب زيلينسكي إلى الجحيم. في النهاية، نحن من يقرر، إنه سلاحنا، إنه مالنا)، أعتقد أن ترمب بدأ يلعب بعنف، هو من يملك كل الأوراق”.

AFP__20251201__86Q9827__v1__MidRes__FranceUkrainePoliticsDiplomacy.jpg
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فطالب بأن يكون إنهاء الحرب في أوكرانيا عادلاً (أ ف ب)​​​​​​​

وأبرز موقع “بوليتيكو” أن حلف “الناتو” يتساءل عن الصيغة التي سيجري بها مفاوضات مع روسيا في حال التوصل إلى تسوية في أوكرانيا، وبحسب الموقع يتعين على دول الحلف أن تقرر الدور الذي سيؤديه “الناتو” بعد التوقيع على اتفاق سلام في شأن أوكرانيا، وما إذا كان ينبغي إحياء مجلس روسيا – “الناتو” الذي توقف فعلياً عن العمل عام 2022.

ونقل عن دبلوماسي رفيع المستوى في الحلف لم يكشف عن اسمه، قوله “إذا كنا سنشارك كحلف في المفاوضات مع روسيا في شأن قضايا ذات اهتمام مشترك، فكيف سنجريها؟ هل مجلس روسيا – (الناتو) لا يزال قابلاً لإعادة الإحياء، أم نحتاج إلى استخدام الولايات المتحدة كوسيط؟”.

وأضاف الموقع أن دول “الناتو” تطالب بأن يكون لها رأي حاسم في الدور الذي سيؤديه الحلف في أي اتفاق سلام مستقبلي مع أوكرانيا، بعدما جرى تهميشها إلى حد كبير في المحادثات حتى الآن.

وبينما لا يزال التوصل إلى اتفاق هدفاً متغيراً، يصر بعض الحلفاء على أن لديهم خطوطاً حمراء يريدون التشاور في شأنها أولاً، وفقاً لأربعة دبلوماسيين من “الناتو”، وتتعلق هذه الخطوط بانضمام كييف إلى الحلف، ونشر القوات والأسلحة على أراضي الحلفاء، واحترام القانون الدولي.

وقالت وزيرة الخارجية الفنلندية إلينا فالتونين، في مقابلة مع “بوليتيكو” إن “الناتو” هو من سيقرر في ما يخص شؤونه في نهاية المطاف، مضيفة أن الدول الأعضاء تعمل الآن على تحديد الخطوط الحمراء بالتنسيق مع الشركاء والحلفاء.

ووفقاً للمحلل في مركز دراسات منطقة البحر الأبيض المتوسط بالمدرسة العليا للاقتصاد في روسيا، تيغران ميلويان “لا يُتوقع أن تُحرز مفاوضات السلام تقدماً سريعاً، فلم تكن هناك أية تنازلات ظاهرة من الجانب الأوكراني في شأن قضايا رئيسة بالنسبة إلى روسيا قبل اجتماع بوتين مع ويتكوف، بما في ذلك تقليص عدد أفراد القوات المسلحة الأوكرانية، وانسحابها من الأراضي المتبقية في دونباس، وترسيخ وضع أوكرانيا كدولة غير منحازة، لذلك نجد أنفسنا في وضع يتطلب أكثر من جولة مفاوضات حتى تقر كييف بالواقع وتقبل بشروط موسكو للسلام، التي قد تزداد قسوة يوماً بعد يوم”، لأن الوضع على أرض المعركة في أوكرانيا يتدهور بسرعة، وهو ما يسمح لموسكو بتشديد هذه الشروط.

التعليقات معطلة.