في خطوة تنذر بتداعيات خطيرة قد تحدث في أي وقت، بدأت مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” تشهد احتجاجات شعبية للمطالبة بإسقاط زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني، محمّلةً إياه المسؤولية عن حالات التعذيب التي شهدتها أروقة التحقيق في ملف العمالة. قد لا يكون التذرّع بالتعذيب سوى واجهة إنسانية تتخفّى خلفها جهات وأشخاص مناهضون للجولاني ويريدون الانقضاض عليه، في ما يعتقدون أنّه يمرّ بلحظة ضعف. ومع الشرخ الواسع الذي ضرب صفوف “هيئة تحرير الشام” بين ما صار يُعرف بجناح الأمنيين وجناح العسكريين، في أعقاب خطوة الإفراج عن المتهمين بالعمالة، لم يعد السؤال هل الجولاني في أزمة تهدّد مصيره، بل كيف سيحاول التخلّص من هذا المأزق بعد خسارته لأهم أصدقائه القدامى ممن كان يعتمد عليهم سابقاً لترسيخ حكمه؟تظاهرة تطالب بإسقاط الجولاني في إدلبوبعد تظاهرات عدة شهدتها خلال الأيام الماضية مناطق عديدة في ريف إدلب، خرجت الثلثاء تظاهرة في مدينة إدلب رافضةً لسياسة “هيئة تحرير الشام” صاحبة السيطرة العسكرية في المنطقة، ومطالبة بإسقاط قائدها أبو محمد الجولاني، وبالإفراج عن المعتقلين. وتجمّع عشرات الأشخاص من ناشطين ومدنيين قرب “دوار الساعة” منتصف المدينة، وطالبوا بوقف تعذيب المعتقلين، وتبييض السجون وتنحّي قائد “الهيئة” أبو محمد الجولاني، ومحاسبة المعتدين على المعتقلين.وتوعّد المتظاهرون باستمرار الاحتجاجات حتى تنفيذ المطالب، مستنكرين سياسة “هيئة تحرير الشام” التي وصفوها بأنّها تشبه “النظام السوري وأفرعه الأمنية” بحسب تعبيرهم. وبعد تجمعهم عند “دوار الساعة”، جال المتظاهرون في شارع رئيسي في إدلب (من الدوار حتى حي الضبيط) مرددين هتافات إسقاط الجولاني وتبييض السجون.
تأتي التظاهرة عقب حالة غضب بين أوساط المدنيين والعسكر شهدتها المدينة، إثر مقتل عنصر من فصيل “جيش الأحرار” في سجون “هيئة تحرير الشام”، إثر تعذيب تعرّض له على خلفية ملف العمالة الذي يعصف في صفوف الهيئة منذ عام. ونقل موقع “عنب بلدي” عن أقرباء القتيل عبد القادر الحكيم، المعروف بـ”أبو عبيدة تل حديا”، ومصادر في الفصيل الذي ينضوي فيه، أنّهم علموا بتصفيته في سجون الهيئة منذ نحو 5 أشهر، وتأكّدوا من ذلك في 24 من شباط (فبراير) الماضي، بعد ضغوط على “تحرير الشام” لمعرفة مصيره، عقب اعتقاله منذ قرابة 10 أشهر. وبعد خروج قيادات وعناصر الهيئة في حملة الإفراج الجماعي نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي، طالب أهله بمعرفة مصيره ليتمّ إخبارهم أنّه مات ودُفن في مقبرة في منطقة الشيخ بحر بريف إدلب الغربي، قبل 5 أشهر. وبعد معرفة مقتل “أبو عبيدة” ودفنه، رفض أهله إقامة عزاء قبل أن يتسلّموا جثته، لتقوم “هيئة تحرير الشام” بإرشادهم إلى قبره، فتوجّه رتل عسكري لـ”جيش الأحرار” إلى منطقة الشيخ بحر، ونقل الجثة وشُيّع في مناطق عديدة من ريف إدلب، وتمّ دفنه في بلدة تفتناز شرقي إدلب. ورافقت الرتل هتافات تتهم “الهيئة” وقائدها أبو محمد الجولاني بـ”العمالة والظلم”، وسط حالة من الغضب الشعبي سادت بين أوساط أهالي تل حديا وريف حلب الجنوبي عموماً، بخاصة بعدما تبيّن أنّ الهيئة جهّزت قبراً وشاهداً باسم الشاب وتاريخ وفاته بوقت حديث، أي بعد فضح مصيره. تفسيرات عديدةمما لاشكّ فيه أنّ انتقال تداعيات ملف العمالة من كواليس “هيئة تحرير الشام” إلى الشارع يُعتبر تطوراً نوعياً، من شأنه إعطاء صورة عن مدى اتساع الشرخ الذي أحدثه هذا الملف، وأنّه لم يعد مجرد انقسام داخلي ضمن صفوف “هيئة تحرير الشام”، بل هو أوسع من ذلك بكثير، وأنّه بدأ يخلق أزمة كبيرة بين الهيئة وحاضنتها الشعبية، وهو ما من شأنه في حال تصاعده أن يشكّل خطراً على مصير الجولاني نفسه وليس على مصير الهيئة وحسب. ومع ذلك، فقد اختلفت التفسيرات بخصوص خروج تظاهرة ضمن مدينة إدلب للمطالبة بإسقاط الجولاني. فهناك من يرى أنّ أزمة العملاء وما أحدثته من نقمة بين جناح الأمنيين وجناح العسكريين قد تكون أدّت إلى تراخي قبضة جهاز الأمن العام وعدم قدرته على ضبط الشارع كما كان يفعل من قبل. ويعبّر هؤلاء عن تفاؤل كبير بأنّ شرارة الثورة ضدّ الجولاني قد انطلقت ولن تخفت قبل التخلّص منه. غير أنّ هناك من يرى الأمر من منظور مختلف، ويدعو إلى عدم الاستعجال في قراءة الاحتجاجات الأولية التي خرجت ضدّ الجولاني لأنّها قد تكون مجرد محاولة من جهاز الأمن العام لاحتواء موجة الغضب العارمة ضدّه، من خلال السماح للمتضررين من التحقيق في ملف العمالة بالقيام بخطوات احتجاجية مضبوطة بحيث لا تتعدّى سقف “فشة الخلق”. وربما يكون لجهاز الأمن العام، الذي تُوجّه إليه أصابع الاتهام باستغلال ملف العمالة من أجل الهيمنة على الجناح العسكري، مصلحة في خروج تظاهرات واحتجاجات في هذا التوقيت، ليس من باب التساهل مع المتضررين من التحقيق، بل من باب توجيه رسالة إلى الجولاني بأنّ طريقته في إدارة ملف العمالة وقراره الأخير بإطلاق سراح المتّهمين قد يؤديان إلى تداعيات في غاية الخطورة قد تهدّد مصيره هو شخصياً، وذلك من أجل دفعه إلى التراجع عن قراراته السابقة أو على الأقل عدم الانسياق أكثر إلى مطالب قادة الجناح العسكري، الذين أصبحت غايتهم الأولى هي الانتقام من جهاز الأمن العام. الجولاني بين خيارين رئيسيينأيّاً يكن الأمر، فإنّ الوقائع والتداعيات التي أعقبت إغلاق ملف العمالة بطريقة سطحية، تؤكّد حقيقة مفادها أنّ “هيئة تحرير الشام” لن تكون بعد اليوم كما كانت عليه قبل فتح هذا الملف في آب (أغسطس) من العام الماضي، وأنّها مهما حاول الجولاني حلّ الأمر بطريقة “تبويس الشوارب” ستنجرف نحو انعطافات كبرى تشبه إلى حدّ كبير الانعطافة التي دفعتها إلى الانشقاق عن تنظيم “القاعدة” العالمي عام 2017. وبدأت بعض مواقع المعارضة السورية تتحدث عن انشغال الجولاني بالإعداد لخطة للخروج من هذا المأزق الذي وضع نفسه فيه، عندما سمح لجهاز الأمن العام بالتسلّط على قادة جناحه العسكري والزجّ بهم في المعتقلات والسجون لأشهر طويلة، ثم عاد وقرّر تبرئة هؤلاء وإطلاق سراحهم وسط ذهول واستياء قادة جهازه الأمني. وتكاد تذهب أغلب التحليلات إلى أنّ الجولاني قد يستنسخ سيناريو عام 2017 لإنقاذ نفسه من براثن الأزمة المتنامية حوله، وذلك عندما اضطر في ذلك الحين إلى الابتعاد عن قيادة “هيئة تحرير الشام” وتسليمها ظاهرياً إلى أبو جابر الشيخ، من أجل امتصاص موجة الاستياء التي أعقبت انشقاقه عن “القاعدة”. وقد تكون المفارقة أنّ من بين السيناريوات المطروحة أمام الجولاني للخروج من مأزقه الحالي، هو استنساخ تجربة عام 2018، عندما أعاد توثيق علاقته مع أبو ماريا القحطاني الذي كان يومها في درعا، وأحضره إلى إدلب بموجب صفقة لا يزال يلفها الغموض، وسلّمه ملفات مهمّة في قيادة الهيئة، قبل أن يعتقله قبل أشهر بتهمة التعامل مع التحالف الدولي وأجهزة مخابرات أجنبية. ويتخوف بعض المناهضين للجولاني من مثل هذا السيناريو، لا سيما في ظل تسريب معلومات تفيد بأنّ الجولاني ينظر جدّياً في اتخاذ قرار بإطلاق سراح القحطاني أسوة بغيره من المتهمين بالعمالة، ومن السذاجة الاعتقاد أنّ الجولاني سيقدّم هذه الخدمة من دون حصوله على مقابل يتمثل في قيام القحطاني بدور لتهدئة الجناح العسكري وبعض العشائر التي يتمتع بعلاقات واسعة معها، وإلّا سيكون كمن يدق المسمار الأخير في نعشه.