وليد محمود عبدالناصر
يثور هذه الأيام جدل حول تغير المناخ على كوكب الأرض: حقيقته ومعدلاته وتأثيراته، وهو موضوع مطروح على جدول أعمال العلاقات الدولية منذ سبعينات القرن العشرين. في السبعينات، كان النقاش بين طرفين؛ أحدهما يمتلك قوة العلم والسند الداعم لوجهة نظره من واقع نتائج سنوات طويلة من البحث العلمي في ذلك الوقت، والآخر كان مدفوعاً باعتبارات آيديولوجية في الأساس. لكن، كان خلف هذه الاعتبارات بالتأكيد مصالح تجارية ومالية لمؤسسات اقتصادية عملاقة في مجالات كثيرة مثل الصناعة والتعدين وغيرها. وتنوعت تلك المصالح بين بلدان ومناطق العالم المختلفة، سواء داخل حدود البلدان الصناعية المتقدمة في العالم الرأسمالي أم خارجها، وتحديداً في بلدان الجنوب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، إذ مثَّلت الدفوع الآيديولوجية الغطاء الملائم لتلك المصالح خلال تلك المرحلة التاريخية المهمة من التوسع الصناعي والتجاري لشركات غربية وانتقال نشاطها الاقتصادي، بما في ذلك أجزاء من العملية الإنتاجية ذاتها، من دول “المركز” في الشمال الصناعي الرأسمالي المتقدم، إلى دول “الهامش” في الجنوب التابع والمتخلف.
وإذا استحضرنا مخزون تلك المرحلة من الذاكرة التاريخية، نجد أن شخصية عربية مصرية كان لها بصماتها في تلك المرحلة، وهو العالم الراحل الكبير الدكتور مصطفى كمال طلبة، المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في ذلك الوقت، إذ كان الأخير من أنصار، بل ومن رواد الدفاع عن طرح “تغير المناخ” والدعوة إلى سرعة بلورة استراتيجيا كونية لمواجهة تلك التغيرات، ومقاومتها والتصدي لها ومحاولة التغلب عليها، أو على الأقل احتواء وتحجيم نتائجها وانعكاساتها على سكان الأرض بصفة عامة، من خلال ما تنتجه هذه الظاهرة من تغير الحالة والظروف المناخية وتبدل الخصائص البيئية ما بين فصول السنة الأربعة، وكذلك مخاطر اندثار نوعيات من النباتات والحيوانات في ظرف سنوات أو عقود أو قرون، وتداعيات ذلك كله على أنماط الحياة البشرية، بما في ذلك بالطبع البيئة الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحيطة بالبشر.
أما الطرف الآخر في ذلك النقاش المستعر (آنذاك)، فكان يمسك بزمام السلطة في دول هامة ومؤثرة، بل ومركزية، في سياق منظومة العالم الرأسمالي وفي النظام الدولي ككل، وخاصة في الولايات المتحدة، إذ كان اليمين المحافظ داخل صفوف “الحزب الجمهوري” مسيطراً على البيت الأبيض من خلال الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، وعبر الأطلسي في المملكة المتحدة، من خلال حليفة مهمة أعادت اللحمة للتحالف الأنجلو- ساكسوني، هي “المرأة الحديدية” رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت تاتشر، زعيمة “حزب المحافظين” آنذاك، التي أعادت ذلك الحزب إلى السلطة. فكلاهما إذاً، جاء من ذات الخلفية العقائدية المتمثلة في اليمين المحافظ، وما يحميه من مصالح اقتصادية للشركات والمؤسسات الغربية الكبرى، وتحديداً الأميركية والبريطانية.
من هذا المنطلق، وعلى هذه الخلفية، واجه الزعيمان اليمينيان الغربيان طرح “تغير المناخ” بكل قوة وحدة، نظراً للإدراك العميق لمدلولات الإجراءات المطلوبة لمواجهة الظاهرة ولانعكاسات تلك الإجراءات، حال تنفيذها على أرض الواقع وفرضها من جانب الدول على المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة على حد سواء، عبر إصدار القوانين واللوائح اللازمة لذلك، على الأرباح والعوائد المالية للشركات الاقتصادية الغربية الكبرى. ودخل الزعيمان في مواجهة مع خصومهما، خاصة مع الدكتور مصطفى كمال طلبة واتهماه بالاعتماد على معلومات غير مؤكدة علمياً وبالترويج لأطروحات ذات صبغة آيديولوجية وسياسية! كل غرضها الإضرار بمصالح المؤسسات الاقتصادية الغربية، ولم يتنبها إلى حقيقة أن موقفهما هو المدفوع باعتبارات آيديولوجية، توفّر المظلة لمصالح اقتصادية رأسمالية مثّلها آنذاك بقوة اليمين المحافظ وقواه وتياراته في المعسكر الغربي. بل ذهبت بعض دوائر اليمين الأوروبي والأميركي المحافظ آنذاك، إلى درجة اتهام الدكتور طلبة بأنه يتآمر مع الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية في ذلك الوقت، للإضرار بمصالح الغرب الاستراتيجية والاقتصادية، وزعزعة استقراره وأمنه وإضعافه من خلال الدفع بطرح “تغير المناخ” وما يتطلبه مواجهة ذلك من مراجعة أنماط الإنتاج والاستهلاك واستغلال الموارد الطبيعية وإدخال تغييرات جذرية عليها، وبالتالي الحديث عن ضلوعه في مسعى يود الوصول إلى إعطاء تميز للعالم الثاني (الشيوعي) في ظل حرب باردة كانت مشتعلة على المستوى العالمي آنذاك بين المعسكرين الشرقي والغربي.
وكان للأمر حساسية خاصة لدى قوى اليمين الأوروبي في تلك الحقبة، وربما ما زالت تلك الحساسية موجودة حتى الآن، لسبب آخر لا يتعلق بالمصالح الاقتصادية فقط، ولكن بخليط من الآيديولوجيا والسياسة، وهو أن الأحزاب “الجديدة” التي أفرزتها الحركة العالمية المدافعة عن البيئة في السبعينات، قويت بسرعة في بعض البلدان الغربية، وببطء في بلدان أخرى. وتبنت تلك الأحزاب منذ انطلاقها مواقف واضحة ضد غالبية تيارات اليمين، ومناوئة لتوجهاتها. وإن كانت تلك الأحزاب في بعض الحالات، أو في بعض الفترات الزمنية، سعت للحفاظ على استقلاليتها في الصراع بين اليمين واليسار في بلدانها، لكنها وجدت نفسها في كثير من الحالات في حالة تحالف طبيعي، وإن لم يكن مخططاً له من قبل أحياناً، مع أطياف من قوى وتيارات اليسار أو الوسط أو كليهما معاً في بلدانها. وبالتالي، شهدنا خلال نحو خمسة عقود، مشاهد كثيرة حرمت فيها حركات وأحزاب البيئة قوى اليمين في بلدانها، بخاصة اليمين المحافظ واليمين المتطرف، من فرصة تحقيق مكاسب انتخابية أو سياسية في ضوء حقيقة الحجم والثقل المتزايد لهذه الحركات والأحزاب لدى شعوبها من جهة، وفي ظل حالات تحالفها مع قوى أخرى من اليسار أو الوسط في بلدانها من جهة أخرى. بل كان لهذا الأمر انعكاساته أيضاً على الساحة الأوروبية ككل، خاصة منذ تمكين مؤسسات الاتحاد الأوروبي وتعزيز سلطات البرلمان الأوروبي وتحول انتخاباته إلى معارك انتخابية حقيقية وساخنة على امتداد البلدان الأعضاء فيه.
في ضوء ما تقدم، قد يقول قائل: “ما أشبه الليلة بالبارحة”، إلا أن المعطيات اختلفت والتوازنات تفاوتت والعلم والتكنولوجيا حققا طفرات وطفرات على مدار النصف قرن الأخير، إذ زادت الأدلة العلمية المرتكزة على إثباتات معملية من جهة، وتجارب عملية وملموسة من جهة أخرى، والتي تسير في اتجاه يعزز رأي أصحاب الطرح الخاص بتغير المناخ ويدعم دفوعهم ويقوي مواقعهم. ولكن هذا، لم يحل بدوره دون استمرار قوى كثيرة، خاصة في البلدان الغربية، سواء في الدوائر الأكاديمية والبحثية والفكرية، أم الأوساط الصحافية والإعلامية، أم منظمات المجتمع المدني وغيرها في التمسك بالطروح القديمة التقليدية ذاتها، المناهضة لأي نقاش علمي أو موضوعي أو منهجي يتصل بظاهرة تغير المناخ والرافضة لدفوع ذلك الطرح من جذورها، يجمعها مجدداً الانتماء إلى دوائر يمينية محافظة وذات تحيزات مسبقة لديها اعتباراتها الآيديولوجية، على رغم انتهاء الحرب الباردة منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، وحساباتها السياسية المتفردة، وشبكة معقدة من المصالح الاقتصادية والمالية والتجارية لمؤسسات غربية كبرى عبر وطنية، تمثلها تلك النخبة المشكلة من مفكرين وساسة وإعلاميين وقادة رأي عام بتوجهاتها اليمينية.
وهكذا، لا نتوقع أن يحسم العالم موقفه إزاء تحدي “تغير المناخ” قريباً، نظراً إلى حقيقة أن النزاع حول هذه الظاهرة، ليس جدلاً علمياً ولا هو حواراً بين علماء، بل هو اختلاف تتداخل فيه، مع الاعتبارات العلمية، اعتبارات أخرى لا تقل أهمية أو تأثيراً أو دلالة، في مقدمها الانتماءات الآيديولوجية لنخبٍ هنا وهناك. هذه الاعتبارات (خاصة في البلدان الغربية)، ترتبط بدورها مع تقديرات جيواستراتيجية عالمية وإقليمية وحسابات سياسية داخلية. كذلك، تمثل تلك الانتماءات مصالح اقتصادية تركز على معايير الكسب والخسارة بالمعنى المادي والآني، بغض النظر عن تحديات ستواجهها الإنسانية حتماً عبر أجيال لم تولد بعد.
* كاتب مصري.