حسن فليح / محلل سياسي
تم قتل الديمقراطية في العراق من ايامها الاولى حينما سلمت الولايات المتحدة نظام الحكم لاحزاب طائفية مسلحة ! في تجربة خطيرة لم تحصل في اي بلد من بلدان العالم ، حيث لايمكن للاحزاب الطائفية ان تتفاعل مع الاخرين ديمقراطيا ، كونها لا تؤمن بالاخر وتؤمن فقط بذاتها ، ان أسوء تحدي يواجهه التجربة الديمقراطية في العراق يكمن في قيام “ديمقراطية في بلد ليس فيه ديمقراطيين” الامر الذي جعل من العراقيين يبحثون عن الديمقراطية بين ركامها ووسط السلاح المنفلت وفصائل السلاح اللادولتية فتلاشى حلمهم عبر تجربة ادمتهم، وهجرتهم، وفرقتهم، يا ترى أين هي تلك الديمقراطية؟
إن الديمقراطية لم تكن يوما حلما عراقيا، كان العراقيون يحلمون بدولة مواطنة وحياة كريمة تسودها سلطة القانون ، فجائت الديمقراطية بشكلها المزيف الحالي الذي قضى على حلمهم ،
وفي جملة رائعة الوصف قالها السياسي والزعيم البريطاني تشرشل من ان “الديمقراطية أفضل الأنظمة السيئة” ادركنا حقيقة تلك المقولة بعد ان عشناها ولمسنا فشل التجربة الديمقراطية بعد مشوار طويل من التعب والتضحيات والمنعطفات الخطيرة التي مررنا بها امتدت لعشرين عام مضت ، ولم تحقق الديمقراطية الزائفة في العراق سوى العنف الطائفي والإرهاب ، والفقر ، وانتشار السلاح ، وتجارة المخدرات والجريمة المنظمة وعدم الاستقرار السياسي والفوضى وتدني القيم الاجتماعية ، وتفشي الفساد الاداري والمالي بشكل مخيف بحيث لم يعد الفساد ظاهرة فحسب وانما اصبح ثقافة وسلوك اجتماعي وقيمي قبل ان يكون اداري ومالي ، إن الأسباب الحقيقية وراء تبني النظام النيابي من الأحزاب الطائفية المسلحة هي من اجل الهيمنة على مراكز صنع القرار وترسيخ مبدأ المحاصصة التي قامت عليها العملية السياسية سيئة الصيت ، وقد اعتمدت تلك الاحزاب سياسة التفرقة واثارة العنف بين ابناء الشعب الواحد ولم تكن هناك اهمية للعراق في عقولهم ، واستطاعت تلك الجماعات ان تحول الدولة العراقية الى مركز للعنف والفساد والخطاب الطائفي وتتسيدها احزاب مرتبطة باجنداد دولية واقليمية عابرة للحدود غير مبالية لحجم الفقر وتردي التعليم والرعاية الصحية وتفشي الامية بالمجتمع ولا همٌَ لها غير الاستحواذ على السلطة ونهب المال العام ، ونحرفت كثيرا عن انتمائها الوطني كما انها مارست الى حد كبير على اذكاء الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة والتي بدونها يفقد الوطن والشعب الامن والعيش بسلام ، بدليل أن البلاد افتقدت للسلام المنشود على مدى عشرون عاما خلت ،
نقول ما هي مصلحة العراقيين في أن يعادي بعضهم بعضاً مذهبيا وطائفيا ؟ هذا عمل يصب بمصلحة أعداء العراق المعروفين، إما الذي نريده أن نوحد ولا نفرق وأن نقرب ولا نباعد، وأن نبني ولا نهدم هذا هو الذي يريده الشعب وهذا الذي يجب ان يسود في الساحة العراقية ، وعلى العكس من ذلك تماما كرست جهدها تلك القوى المؤدلجة مذهبيا بأثارة الخلافات ونبش الموروثات التاريخية، التي من شأنها ان تبعدنا عن عوامل الاستقرار الحياتية والسياسية، وتقف حائل دون خلق بيئة واجواء ملائمة من اجل تعزيز الوحدة الوطنية وتجاوز الخلافات عبر ترجيح العوامل الوطنية والبناء عليها، أن من أهم أسباب فشل النظام الديمقراطي البرلماني في العراق هو التدخل الاقليمي والدولي في الشؤون السياسية للعراق ، وغالبا ما تدفع تلك الدول أجنداتها الخاصة وتقوض مصالح البلاد العليا، من خلال قوى سياسية محسوبة على هذا الطرف الدولي او ذاك ،
فشلت الطبقة السياسية لحد اللحظة من بلورة مشروع وطني لبناء الدولة وفقدانها لرؤية السبيل لذلك ، دون الاكتراث لعوامل بناء الدولة، بحيث جعلت من العراق “دولة فاشلة” بامتياز ، ومن المثير للدهشة ان بعض السياسيين يلوحون بلقاءاتهم المثيرة للاستغراب من خشيتهم بالانزلاق نحو الهاوية بفقدان الدولة !! في حين انهم لا يجدون لتلك الخشية صدى لدى الشعب العراقي، وغير مكترث لتهديهم هذا والذي يثير السخرية لديه لأنه متيقن تماما بأنه يعيش في حالة “اللادولة” التي تحطمت على يدهم !
تتحمل الطبقة السياسية المسؤولية التاريخية الكاملة عن حالة التردي التي وصل إليها العراق بعد 20 عشرون عاما على سقوط النظام الدكتاتوري ، وما آلت اليها الاوضاع في البلاد من حالة التردي والضياع على جميع الصعد ، بحيث لا يمكن لنا أن نتوقع حلول حقيقة لمعضلة العراق في ظل الطبقة السياسية الحالية ، بعد محاولاتها القضاء على التجربة الديمقراطية وحولتها الى توافقات سياسية تضمن مصالحهم الفئوية وضمان الهيمنة على السلطة ، علما ان ذلك افقدها ثقة الشعب حيث لايمكن لنا ان نتخيل انها تستطيع ان تقيم الاصلاح وتُعدل من مسارها السياسي بعد ان غرقت في وحل العمالة والفساد ، ولن نتوقع منها يوما ان تتخلى عن السلاح ونظام المحاصصة المشين ، ولايمكن لها ان تقيم انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة وعادلة من اجل التغيير والاصلاح ، لانها تعلم حينذاك ستكون خارج المعادلة الحالية وعرضة لغضب الشعب وفتح شامل لجميع ملفات الفساد والخيانة الوطنية .