أنهت الإدارة الجديدة في سورية التحضير لمؤتمر الحوار الوطني خلال 15 يوماً، قبل أن يُعقد في دمشق وينتهي في 25 فبراير/ شباط الحالي، وضمّ نحو ثمانمائة شخصية، واختتم ببيانٍ من 18 بنداً. وجاءت المخرجات/ التوصيات، بعبارات “استجدائية” من الإدارة، للمسارعة في إصدار إعلان دستوري وتشكيل مجلس تشريعي ولجنة دستورية وقضايا أخرى. أرادت الإدارة من الحوارات كافّة الحصول على شرعية شعبية تستعين بها لتتحكّم بالمرحلة الانتقالية، وتروّج أنها تخطّت الشرعية الثورية غير الدستورية، وأن على العالم أن يعترف بها، ويرفع عنها العقوبات، وألا يبتزّها باشتراطات قديمة وجديدة، وأن تُسقَط تهمة “الإرهاب” عن هيئة تحرير الشام، باعتبار أن الإدارة قد حلّتها.
ليس هناك في الأفق أيّ إسقاط للعقوبات بشكل كامل، ولا لشطب هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب. ما زالت أميركا والاتحاد الأوروبي يتعاملان مع الإدارة الجديدة ضمن هذا الإطار، وسيستمرّان بابتزازها ريثما يحقّقا مصالح الدولة الصهيونية في سورية، وأن ترضخ حكومة دمشق للأمر، ويحاولان إجبار الحكومة على السير باتجاه نظام سياسي، وحكومة جديدة، تنطلق من “المكوّنات” الطائفية والعرقية، وبما يتوافق مع سياسة الحكومة الصهيونية لمستقبل سورية، وهو ما رفضته حكومة دمشق، ولكنّ سياساتها تتجّه بسورية نحو حكم مكوّناتي كان كارثياً في العراق ولبنان، وهكذا سيكون مصير سورية إن اعتُمِد.
عقدت الإدارة الجديدة حوارات سياسية في مختلف المدن السورية، ولكنّها لم تُناقِش شؤون المدن وأهلها، ولا سيّما المدمّرة، ولا كيفية النهوض من الوضع الكارثي
سياسات الإدارة الجديدة أضعف من أن تواجه التحدّيات التي تعترضها، فهي تجاهلت الدعوات كافّة لتشكيل جيش وطني، ووضعت قيادات أجنبية في مقدمة بعض فِرقه، وتجاهلت وجود أكثر من سبعة آلاف ضابط منشقّ، وآلاف أخرى في جيش النظام لم يكونوا من القتلة والمجرمين، وأعلنت سياسات خاطئة تخصّ الاقتصاد وخصخصته والعمّال، وقد طردت قرابة 400 ألف منهم، وما زالت الخلافات قائمةً مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وأحمد العودة في درعا، وبعض فصائل السويداء، وهناك تذمّر لدى العلويين والمسيحيين وأهالي المدن من السُنّة. كان يجب مراعاة ذلك كلّه بخطابٍ وطنيٍّ، وبالسير بالعدالة الانتقالية في حمص واللاذقية وطرطوس، وفي المدن السورية كافّة. تجاهلت الإدارة ذلك كلّه، وعقدت حوارات سياسية في مختلف المدن السورية، ولكنّها لم تُناقِش شؤون المدن وأهلها، ولا سيّما المدمّرة منها، ولا كيفية النهوض من الوضع الكارثي. كانت الحوارات شكليّة بالكامل، والبيان الختامي ذاته كان مُعدَّاً من اللجنة التحضيرية، فكيف ستُناقِش 800 شخصية مسودّة البيان خلال ساعات قليلة؟… هذا مستحيل.
تستدعي التحدّيات الكُبرى (الداخلية والخارجية)، التي تواجه الإدارة الجديدة خطّةً للمرحلة الانتقالية غير التي سارت فيها منذ وصولها إلى دمشق، بدءاً بإعلانٍ دستوريٍّ مؤقّت لم تُعلنْه، وستُعلِنه اليوم وفقاً للمخرجات، إلى جانب مجلس تشريعي مؤقّت. ماذا يعني هذا؟ ولماذا تأخّرت بالأمر، مع أن الفصائل حينما أعلنت أحمد الشرع رئيساً أعطته الحقّ بتشكيل مجلس تشريعي مؤقّت؟ … تنطلق سياسة الإدارة الحالية من أنها حازت شرعيةً شعبيةً عبر مؤتمر الحوار. وبالتالي، أصبحت حرّةً في قراراتها التي تنتهجها، وستتحكّم ببنود الإعلان الدستوري وتشكيلة المجلس التشريعي، محدّدةً أدواراً تتحكم بها لصالح مختلف الفعّاليات الاقتصادية والسياسية والثقافية، فتقرّب بعضها، وتبعد سواها، وفقاً لما يخدم سياسة الإدارة في التحكّم والاستئثار بالسلطة والدولة والجيش، وبمؤسّسات الدولة كلّها.
في كلمة رئيس الجمهورية أحمد الشرع، قبل البيان الختامي، وردت فِكَرٌ إشكالية، فتحدّث عن عدم استيراد أنظمة سياسية لا “تتلاءم مع وضع البلاد”، لكنّ السوريين خرجوا (منذ 2011) من أجل نظام ديمقراطي بالتحديد، وللتخلّص من الاستبداد بشكل نهائي، وتتضمّن عبارة الشرع (أعلاه) قولاً بنظامٍ سياسيٍّ منضبط إلى حدوده القصوى، ومُتحكّم فيه، وليس فيه تمثيل حقيقي للشعب. يكون التمثيل الحقيقي عبر إرساء نظامٍ ديمقراطيٍّ وفصلٍ للسلطات، وأيضاً لم يتضمّن البيان عبارةَ فصل السلطات، بل التوزان في ما بينها، والفصل يعني الاستقلالية والتكامل، وأمّا التوازن فيعني تحكّم الإدارة والسلطة التنفيذية بالقضائية والتشريعية، وبالإعلام كذلك. أيضاً، دعا الشرع الشعب للصبر، وأن هناك قرارات مؤلمة وصادمة، أي أنّه يقول من جديد بأن من يُحرِّر يُقرِّر، وثقوا بنا، ودعونا نكمل التحرير. يريد الشعب الأمن، وهي وظيفة الدولة في المرحلة الانتقالية بشكلٍ خاص، ويريد فصل السلطات، ويريد خطّةً وطنيةً للنهوض، وتأمين الكهرباء والعمل والطبابة والتعليم وسواها. إن إعلان الإدارة ضرورة الصبر مؤشّر سلبي إلى أوضاع “مؤلمة وصادمة”، بينما يريد الشعب مشاركة الإدارة في إرساء الحكم الجديد والنهوض بالدولة وبالاقتصاد وبالتعليم وبالجيش، على أسس وطنية، وبعيداً من الاستئثار الذي تسعى إليه الإدارة الجديدة.
يبتغي السوريون دولة حديثة ديمقراطية، والبدء بمشروعٍ وطني تكون الفكرة الوطنية أساسه
سورية، وليست الإدارة فقط، أمام تحدّيات كبرى، وإذا توافقت الأغلبية السورية مع الإدارة على ضرورة تحقيق الأمن، فإنها تختلف مع الإدارة في طريقة السير في المرحلة الانتقالية، وفي تغييب حقوق السوريين ومطالبهم منذ 2011، والآن هناك مطالب جديدة لفئات جديدة، أوضح الكاتب بعضها أعلاه. هناك فرصة أخيرة قبل أن تزداد التأثيرات السالبة للعقوبات على سورية، أو يتأجل حذفها كاملةً، وهي تشكيل الحكومة في بداية مارس/ آذار. هي فرصة أخيرة، لأن آلية الوصول إلى المخرجات، واللجان التي ستتشكّل منها، ستعمل وفقاً لما تريده الإدارة، وليس انطلاقاً من توافقات وطنية مع القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية كافّة، التي كانت تتطلّب مؤتمراً وطنياً عاماً، ونقاشات وحوارات لأكثر من عام، وأن تكون مهمّة الإدارة ضبط الأمن وتأمين الاحتياجات الأساسية للشعب، والدخول في الحوارات، بغية الوصول إلى قرارات ملزمة للإدارة، وتطبيقها، والبدء بتشكيل دولة للسوريين كافّة. الفرصة الجديدة أن تكون الشخصيات التي ستتشكّل منها الحكومة الانتقالية وطنيةً وممثّلةً للسوريين جميعهم. هناك تذمّر شعبي واسع من خطّة الحكومة، ومن مؤتمر الحوار الوطني، ويقال عن الأخير إنّه “ضحك على اللحى”. وبالتالي، ولتفادي هذه الأخطاء، والضغوط الدولية التي ما تنفك تؤكّد روحية القرار الدولي 2254، لا بدّ من التمثيل الواسع للسوريين في الحكومة المقبلة.
قبل الفرصة الأخيرة هناك فرصة أخرى، أن تسعى الإدارة إلى عدم احتكار التمثيل في الإعلان الدستوري، أو المجلس التشريعي أو لجنة الدستور، وسواها، فهل ستتجاوز عقلية الاستئثار والتفرّد والتحكّم بكل صغيرة وكبيرة، وتُشرِك مختلف الفعّاليات الوطنية بهذه التشكيلات؟ … يبتغي السوريون السير نحو دولة حديثة، ديمقراطية بالفعل، فيها فصل للسلطات، وتداول للسلطة، والاعتراف بالتعدّدية السياسية والحزبية والحرّيات العامّة والخاصّة، واقتصاد وطني. يريد السوريون البدء بمشروعٍ وطني، تكون الفكرة الوطنية أساس في ما سينشأ منه كلّه؛ الإعلان الدستوري والمجلس التشريعي والجيش…، والحكومة القادمة كذلك.