عبد الفتاح طوقان
طوي الملك عبد الله الثاني صفحة من تقاليد الملك الراحل الحسين وهي الورقة الخاصة بالمساعدات والتحالفات حين صرح في لقاء مسجل سرب الي الاعلام يوم 22 ديسمبر 2017 في اجتماع حضره بعض من رؤساء الأردن ورئيس الديوان الملكي وأعضاء من الحكومة الحالية وهو يقرأ من ورقة ويقول: “بيجي واحد يقول لي مئة مليار دولار على حساب الأردن، ما بنقبل” ثم لوح بيده قائلا “مع السلامة”.
بعد هذا الحديث الذي اجبر عليه بسبب نكث الوعود وتخلي الحلفاء عن الأردن، هل يمكن للأردن البقاء على قيد الحياة دون مساعدات وتحالفات؟ والي اين البوصلة؟ أنها لحظة تأسيسية فارقة في حياة الأردن.
لقد كان السؤال الأساسي في جميع أنحاء العالم منذ المحارق الألمانية لليهود “هولوكست” هل يمكن لإسرائيل البقاء دون مساعدات وتحالفات وكانت الإجابة دوما “لا”.
اليوم اختلفت الصورة وتبدلت المواقع وأصبح السؤال موجها للعمق الاردني.
واقصد أن الأردن في مواجهة حالة ليست مستجدة ولكن جذور الحكومات الأردنية تهاونت ولم تتخذ الحذر الشديد بعد معاهدة وادي عربه وفشل بعضها حيث لم تكن واعية لما تقوم به الالة الصهيونية، واغلب وزرائها لا يقرأون او غير مهتمون بالتاريخ، ولم يرد في أي من فكر وعقل من كتب وصاغ كتب التكليف السامي التي كان يبعث بها الملك للحكومة وقت تشكيلها ” توثيق تاريخ الأردن وشرعية وجوده ومواجهة الادعاءات الصهيونية وضحدها والاهتمام بجغرافية و حدود فلسطين والتأكيد عليها تاريخيا”.
لقد كُتبت كُتب التكليف السامي في بعض منها تحصيل حاصل وعبارات وكليشيهات عامة متكررة، واعتبرت الأردن بتحالفاتها انها مصانة من كل سوء، وهذا خطآ استراتيجي يدفع الأردن ثمنه اليوم.
بينما الصهيونية لديها أوراق موثقة مخطط لها ولأطماعها، وكُتب ونُشر عن ذلك العديد من المؤرخين والاستراتيجيين الصهاينة حول العالم ليتقدموا مستهدفين بفكر متأصل ومتعمق الاردن منذ الازل وحتى اليوم، والتي توحي في نهاية المطاف أن السؤال عن فلسطين كما عن إسرائيل أصبح سؤال مضلل، حتى صياغته خاطئة. كرة اللهب والمطمع هو” الأردن”.
اما موضوع القدس ونقل السفارة تارة، والغاء اشراف الهاشميين على المسجد الأقصى والمقدسات من جهة، وتصريح اللواء قائد الفرقة الثالثة الإسرائيلية من خمس سنوات بضرورة رحيل الملكية من جهة اخري، و عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي يهودا باراك بترحيل الهاشميين خارج البلاد و تقديم عرض بتحمل كافة مصاريفهم و حياتهم الي ابد الابدين في أي دولة يختارون و الذي تم في شرم الشيخ وغيرها من التصرفات و التصريحات، على سبيل الذكر لا الحصر، ما هي الا أساليب ومناوشات مفتعلة لتسهيل عملية الخلخلة وبداية هدم اركان قوة البنيان الأردني في مرحلة قبل الانقضاض عليه ، ولا يستبعد عقد مؤتمرات مثل الذي حدث مؤخرا التي تدعي الي انهاء الكيان الأردني و قد تظهر في الأفق او يلوح بمحاولات انقلابية كاذبه للتلاعب في الراي العام.
إن إسرائيل سوف تبقي على قيد الحياة حسب الامم المتحدة وحسب تحالفاتها حسب رؤية السياسيين وخبراء القانون الدولي هي نغمة تعزفها الدول المسالمة في معاهدات والمستسلمة للفلك الإسرائيلي، وجملة “وجدت لتبقي” كما هي مقولة قديمة هي أيضا متداولة ورددها مؤخرا رئيس السلطة الفلسطينية في اجتماعه مع قادة من إسرائيل مؤخرا في شريط يظهرهم يصفقون له على كلمة “لتبقي”.
ولكن اليوم لاحت في الأفق المقولة الجديدة وتصدرت الساحة وهي ” من الدولة التي لن تبقي”؟ من هي التي خلقت من رحم سايكس بيكو لتتغير؟ ما البلد الذي سوف يختطف عن الخارطة ويتحول وكيف؟
واقصد أن الكتابات والدراسات والاقوال والتصاريح والأفعال كلها تشير الي دولة واحدة وهي الأردن.
فماذا ستفعل الأردن وكيف؟ وما هي شكل الحكومة المطلوبة مع بداية العام الجديد وفي ظل تلك الحقائق ؟ ومتي ستخرج الي النور حكومة وطنية قوية وفاعلة ومؤهلة؟
الأردن امامه ثلاث حقائق عليه ان يتعامل معها أولهم ما قيل ووثق في عديد من الكتب خلال خمسين عاما وليس اخرهم كتاب اليهودي “هريش جوود مان” الصادر عام 2011 والذي حمل عنوان ” تشريح لكيفية بقاء دولة إسرائيل”، وفي المقدمة مباشرة نجد: “ان امام إسرائيل خيار واحد للسلام وهو نقل اعداد ضخمة من السكان الي الاردن”. ويرجي ملاحظة انه اكتفي بكلمة سلام ويقصد سلام دولة إسرائيل فقط لا غيرها.
وطبعا هذا النقل للسكان الفلسطينيون حدث على دفعات حيث تم توطين- بحقوق كاملة غير منقوصة – أربعة ملايين ونصف فلسطيني في الأردن. والحديث يدور الان عن مليون ونصف اخرون سيتم ترحيلهم من الضفة الغربية تحت مسمي “التران سفير”.
ومن المقترح لذلك اما ان يكون نقل السكان مباشر تحت التهديد او الترحيل القصري كما حدث في عام 1948، 1967، او على مراحل على ان يتم سحب مجموعات من الشباب الفلسطيني الي منطقة المشروع الجديد “نيوم” الذي يشمل السعودية والأردن ومصرو اسرائيل بحجة توفير فرص عمل لهم، وبعدها عدم السماح لهم بالعودة الي الضفة الغربية وحصرهم قصريا في الأردن او الأردن الجديد الذي يحاولون نزع ملكيته.
والحقيقة الثانية ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي في شهر مايو 2011 ردا علي الرئيس الأمريكي أوباما الذي طالب بمفاوضات مبنية على حدود 1967 والأرض مقابل السلام، والتي كانت حديث وتغريد الملك الراحل الحسين في كل أقواله ان قال نتانياهو:” إن إسرائيل لم تعد قادرة على العودة إلى حدود 1967، ولن تقبل بها ” والتي وصفها بأنها حدود إذا قبلتها إسرائيل لا يمكن الدفاع عنها. اذن الذريعة التي يعتمدها نتانياهو هي امن إسرائيل ولا مجال للتنازل او التفاوض عليها او حولها ويتضح هذا من بناء المستوطنات بعشرات الالاف من المسكان وإقامة السور وقطع الأشجار وهدم منازل الفلسطينيين والاستحواذ على الاراض الفلسطينية.
والحقيقة الثالثة ما قدمه رئيس الوزراء شارون الي الرئيس رونالد ريجان من وثائق ومخططات ومعاهدات واتفاقات ورسائل متبادلة بين الشريف حسين و مكماهون و بين الأمير فيصل ملك العراق و الصهيونية و التي من خلالها وثقت إسرائيل (بغض النظر ان هذا التوثيق كذب او اختلاق لكنه الوثائق الوحيدة الموجودة)، ان الأردن هي فلسطين و انها كانت مؤامرة بريطانية لسرقة فلسطين و تسليمها للهاشميين.
اذن الان المخططات الصهيونية واضحة، واللعب السياسي علي المكشوف لذا لا بد من التعامل الذكي بدهاء مع تلك المعطيات بإضافة ان الغطاء الأمريكي سحب، وعوضا عن الانغماس والانكفاء في عباءة حكومات ضعيفة وسراويل أمريكية لا بد من مفكرين وساسة أصحاب رؤي واستراتيجيات بعكس الحكومات السابقة التي تتبع توجيهات سفير هنا وقنصل هناك.
السيناريو الاول التوجه الي تركيا الحالمة بعوده “الإمبراطورية العثمانية بشكل جديد ” يفتح أبواب التساؤل عن الثمن الذي سيدفعه الأردن في حال اتجه للتحالف معها؟، وهل ستقبل تركيا بان تضع يدها فيمن اتفق مع بريطانيا لأسقاط سطوتها وإمبراطورتيها العثمانية تاريخيا؟ وما هي الضمانات؟، ام أن تركيا ستعود لتلعب دورا مشابها عندما وضعت الملك طلال في مشفاها الصحي خدمة لسياسات بريطانيا التي تأمرت عليه؟
ولعل مشهد محور تركيا – الأردن في ظل الخلافات المصرية التركية يعتبر تطورٍ جديد من شأنه أن يزيدَ الأزمةَ تعقيداً بين مصرو الاردن.
والسيناريو الثاني التوجه الي إيران وهو محور أكثر خطورة خصوصا وأنها تحلم بعودة الإمبراطورية الفارسية، حتى وأن كان يؤمن هذا المحور النفط بالمجان كما كان يفعل العراق مع الأردن، فهل ستقبل إيران بعد ان رفض الأردن عرضا منذ عامين هذا العرض؟ وما هو المطلوب على الساحة السياسية تجاه الدخول في المحور الشيعي الذي أيضا عارضه الأردن بشده وانتقده في كل المحافل بعد الثورة الايرانية الإسلامية، في حين كان مؤيدا له وقت الشاه؟، وهل الأردن على استعداد بعودة حماس الي الساحة الأردنية مثلا والاتفاق مع حزب الله وسوريه ؟، ام ان سوريه ستقف بالمرصاد للأردن وتعارض ان يكون ضمن هذا المحور؟
وأيضا هذا المحور ان حدث، الايراني الأردني عبارة عن سيناريو الحلم المزعج الذي يفرض علي الأردن حينها ان يدور في فلكها.
والعقدة أن كل من المحورين يعني انهاء حالة التوازن مع الخليج ويثير التوتر مع مصر، ولكن الأهم هل تسمح أمريكا للأردن أن يفعل ذلك؟ هل الأردن له حرية القرار بأوراقه؟ وهل تقبل إسرائيل بالنتائج وستقف بصمت تراقب؟ ام انها ستمزق وادي عربه وتستبيح أجزاء من الأردن بحجة امن إسرائيل؟
والسيناريو الثالث وهو الأصعب والابعد ممتلئ بالصخب يؤدي الي ” اللادولة ” ، وهو ان يقوم الأردن بتغيير نفسه بنفسه، ولهذا شقان أولهما ان يقبل بما تمليه أمريكا وإسرائيل من انقسام وانشطار لأجل الإبقاء على ملكية جزئيه تمثيلية ذو سيطرة شكلية على مساحات متفق عليها من الأرض وهو ما يرفضه الفلسطينيون والأردنيون معا، او ان يفرض عليه “تغير نظام” داخليا بمعونة اجنبية وتأييد من الخارج وتمويل من بعض دول المنطقة لأجل الإبقاء على الأردن دون الملكية في شبه دولة تابعة وهو أيضا مرفوض جملة وتفصيلا.
في كل من السيناريوهات الوضع أسوأ من الاخر لأنه سيضع الأردن في خانة نقل الانتماءات الوطنية وسيادة الدولة من فريق الي اخر. لا يوجد شيء في السياسة بالمجان، حيث لكل محور سياسته وأهدافه الخاصة، لذا لا بد من وضع سيناريوهات ودراستها وتحليلها لمعرفة الي اين يسير الأردن التقاطعات البينية في السياسة؟، وأيضا في حال انضم الأردن الي أي من المحاور فما هي استراتيجية الانسحاب من المحور والتكلفة السياسية والاقتصادية لذلك؟ ان الأردن امام حالة من الاواني المستطرقة سياسيا الذي يحتاج صاحب القرار الي مصفوفة كاملة لبناء قراره بعد ان يتفهم تحاليلها وتفاضلها وتكاملها.
أن تلك الاحداث ما كانت لتظهر لولا التفُتت وسلسلة الانقسامات الناجمة عن النزاعات والخلافات الإثنية والطائفية بين الدول العربية، حُيَال حكَّامهَا الجدد، وهشاشة توافقهم بعد الربيع العربي الذي قسم وسيقسم أربع دول (سوريه والعراق وليبيا واليمن) الي أربعة عشر دويلة وكان يهدف الي ادخال الأردن ضمن اللعبة الامريكية لشرق أوسط جديد ولكن تم استثنائها لاستخدام ورقتها لاحقا*.
(*المصدر: دراسة تحليلية نشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في 1/10/2013، كشفت عن خريطة جديدة يمكن للعالم العربي أن يكون عليها بعد ثورات الربيع العربي التي شهدها وغيرت من أنظمة الحكم فيه).
لذا يري البعض أنه لابد من الانتباه أيضا الي أن هناك شركا تحت مسمي شريك يقف مثل القط بانتظار خروج الفأر من الجحر، وهو الشريك الروسي الذي لابد من التعامل معه بحذر شديد، بينما تنتظر فرنسا توسيع بقايا انتداباها لتشمل دول جديدة ليس اقلها الأردن.
من المفيد أحياناً أن يقرأ المرء التاريخ ليستشرف منه المستقبل ليحافظ على الوطن حتى لا يعاد انتاج سايكس بيكو جديدة، والأهم ان يكون الأردن مستعدا بخيرة أبنائه ومستشاريه وخبرائه في كل المجالات من التاريخ الي التوثيق الي التفاوض الي التعاقدات والمعاهدات الدولية الي مساحي الأراضي وكاتبي الخطابات والرسائل وغيرهم حتى وان استعان بالخبرة الدولية المدفوعة الاجر، عوضا عن مجموعة جل اهتمامها مصالحها ومناصبها تتحكم في مصير الوطن وأبنائه. لا يجوز بتاتا في تلك المرحلة وزارات شرفية او مسميات وزارية، لابد من وزراء من رأسهم الي أخمص قدميهم اردنيون هاشميون، مفكرون وأصحاب دهاء ورؤية.
والتساؤل من هو المستشار المؤهل للملك الذي يدير التوثيق في القصر الملكي او في وزارة الخارجية الان في مواجهة ما تقوم به الصهيونية وإسرائيل؟، وهل يوجد طاقم مختص بذلك يتعاون معه ؟، من هو المستشار المختص بوضع استراتيجيات السيناريوهات وتحليلها ومتابعتها؟ وهل يوجد فريق لذلك ام لا؟
في كلتي الحالتين الشفافية مطلوبة لإظهار اين تلك الدراسات التي يمكن الاطلاع عليها والمساهمة بها؟، ومن متي بدأ العمل عليها والي اين وصلت؟، وإذا ليست متوافرة من سيحاسب على غيابها ؟، وكيف ستتم المباشرة إذا كان هناك نية للحفاظ والدفاع عن الأردن والهاشميين؟ لأن تلك مشكلة من مشاكل سواء كلية او جزئية من مشكلة أكبر تعانيها الاردن أدت وستؤدي الي مخاطر جيوسياسية متأتية تهدد بزوال الملكية والوطن معا.