بين ذاكرة الثورة وصناديق الوهم
مع اقتراب الذكرى السادسة لثورة تشرين (25 تشرين الأول)، تعود روحها لتملأ الشوارع قبل أن تُفتح صناديق انتخاباتٍ فقدت معناها، مقررةً في 11/11، وسط حالة من الإحباط الشعبي وفقدان الثقة بالعملية السياسية برمتها. تتزامن الذكرى هذا العام مع تصاعد التوتر الإقليمي، وعودة الولايات المتحدة إلى الساحة العراقية عبر مبعوث الرئيس ترامب، مارك سافايا، في مشهد يشي بأن العراق مقبل على مرحلة مفصلية قد تعيد ترتيب التوازنات داخليًا وخارجيًا، وتفتح الباب أمام احتمالات تأجيل الانتخابات تحت ضغط الشارع والمجتمع الدولي على حد سواء.
تشرين… الثورة التي أرادت وطنًا
ثورة تشرين لم تكن حدثًا سياسيًا عابرًا، بل ولادة وعي وطني جديد رفض الوصاية الخارجية، وواجه منظومة فسادٍ متجذرة حوّلت الدولة إلى غنيمة للأحزاب والمحاصصة. خرج الشباب العراقي إلى الساحات بلا دعم حزبي أو تمويل خارجي، مدفوعين بإحساسٍ جمعيٍّ بوجع الوطن. كانت تشرين لحظة صدق نادرة في تاريخ العراق الحديث، ثورة حرّة خذلها الجميع لأنها لم تكن أداة لأحد، بل تعبيرًا خالصًا عن روح العراقيين وهويتهم الوطنية التي لا تقبل التبعية.
الدماء التي أسقطت الخوف
لم تكن دماء الشهداء في تشرين سوى ثمن الوعي والكرامة. واجه الثوار الرصاص بصدور عارية، وأسقطوا جدار الخوف الذي بناه النظام منذ عام 2003. الذين قُمعوا وسُفكت دماؤهم لم يسقطوا عبثًا؛ فقد غيّروا معادلة الشرعية في العراق. من بعد تشرين، لم تعد شرعية الحكم تُقاس بعدد المقاعد أو الولاءات، بل بمدى القبول الشعبي، وهو ما تفتقر إليه الطبقة الحاكمة اليوم وهي تواجه دعوات المقاطعة الواسعة للانتخابات المقبلة.
الانتخابات الهزيلة… عودة إلى المربع الأول
بينما يستعد الشارع لإحياء ذكرى تشرين، تُصرّ القوى السياسية على المضي في انتخاباتٍ يعلم الجميع أنها بلا مصداقية ولا قدرة على إنتاج تغيير حقيقي .الرفض الشعبي الواسع، إلى جانب الانقسامات داخل “الإطار التنسيقي” وتنامي الغضب الدولي من النفوذ الإيراني، كلها عوامل تجعل من موعد 11/11 محطة غير مضمونة، بل مرشحة للتأجيل تحت ذرائع فنية وأمنية او ضغوط خارجية، فيما السبب الحقيقي هو غياب القبول الشعبي وفقدان الثقة التامة بالنظام القائم . تشرين، التي واجهت القمع الإيراني والاغتيالات والاختطاف، تقف اليوم كرمزٍ يذكّر العراقيين بأن طريق الإصلاح لا يُعبّد بانتخابات شكلية، بل بإرادة وطنية صلبة تفرض التغيير من الشارع لا من الصناديق المزيفة.
سافايا وبوادر التحوّل الأمريكي
زيارة مبعوث ترامب إلى العراق لم تمرّ مرور الكرام؛ فهي تحمل دلالات عميقة في التوقيت والمضمون. عودة واشنطن إلى العراق عبر قناة سياسية مباشرة، في ظل تصاعد التوتر الإقليمي، تشير إلى رغبة أمريكية في إعادة ترتيب المشهد بما يحدّ من النفوذ الإيراني المتغلغل في مؤسسات الدولة .هذه العودة، إذا ما ترافقَت مع حراكٍ شعبي في ذكرى تشرين، قد تعيد خلط الأوراق داخل العراق وتفتح الباب أمام مسارٍ سياسي جديد، يكون الشارع فيه رقمًا حقيقيًا لا يُمكن تجاوزه.
الإرادة الشعبية… المشروع الوحيد القادر على البقاء
ما يميّز تشرين أنها لم ترفع شعارات طائفية ولا حزبية، بل طالبت بدولة عادلة، وسيادة حقيقية، وقرارٍ وطنيٍ مستقل. هذا الخطاب بات اليوم أكثر نضجًا وتأثيرًا، في وقتٍ فقدت فيه المنظومة السياسية كل شرعية أخلاقية وشعبية. لقد أثبتت تشرين أن الشعب قادر على كسر دائرة الخوف، وأن إرادته حين تتوحد تصبح أقوى من كل مشاريع القمع والوصاية، محلية كانت أم خارجية.
تشرين ليست ذكرى… بل نبوءة وطن
في لحظةٍ يختلط فيها المشهد الداخلي بالتجاذب الإقليمي والضغوط الدولية، تظل ثورة تشرين الحدث الأصدق في الوعي العراقي الحديث. هي ليست مجرد ذكرى، بل نبوءة وطنٍ قرر أن ينهض مهما طال الزمن. قد تتأجل الانتخابات، وقد تتغير الوجوه، لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن العراق بعد تشرين لم يعد كما كان قبلها. فالثورة التي خذلها الجميع لم تمت، بل تعود اليوم في الذكرى السادسة أكثر وعيًا وتنظيمًا، لتؤكد أن صوت الشعب هو وحده القادر على إسقاط الوصاية، واستعادة الدولة، وصناعة عراقٍ جديدٍ يليق بتضحيات أبنائه.

