ثورة تكنولوجية خفية في الصين

1

كيف تهدد بكين الهيمنة الأميركية؟

دان وانغ  

صراع أميركي صيني على الرقاقات الإلكترونية (جوليا دفوسي/ فورين أفيرز)

في العام 2007، بدأت شركة “أبل”، بتصنيع هواتف “آيفون” في الصين. وآنذاك، عُرفت تلك البلاد بقواها العاملة الرخيصة، أكثر منها بإنتاج وسائل تكنولوجيا عالية ومنمقة. وفي تلك الحقبة، لم تكن الشركات الصينية قادرة تقريباً على إنتاج أي من المكونات الداخلية لهواتف “آيفون”، فعمدت إلى استيرادها من ألمانيا واليابان والولايات المتحدة، وانحصرت مهمة الصين عموماً، في مجال تصنيع هذه الهواتف، بتجميع مكوناتها داخل معامل شركة “فوكسكون” في شينجين، ما مثل أقل من أربعة في المئة من كلفة القيمة المضافة.

وقد شهد الوضع تغييراً جذرياً مع حلول عام 2018، إبان ظهور الخليوي “آيفون إكس”. وحينها، لم يعد نشاط العاملين الصينيين، محصوراً بتجميع معظم هواتف “آيفون”، إذ أصبحت الشركات الصينية ضالعة بإنتاج عدد كبير من المكونات الداخلية العالية التقنية في هذه الهواتف، بما في ذلك القطع السمعية، ووحدات الشحن، وعلب البطاريات، بالتالي احترفت الشركات الصينية التكنولوجيات المعقدة. واكتسبت قدرة على تصنيع منتجات بنوعية أفضل من منافسيها الآسيويين والأوروبيين. وقد تسارع هذا النمط مع الأجيال الجديدة من هواتف “آيفون”. واليوم، أصبحت شركات التكنولوجيا الصينية مسؤولة عن أكثر من 25 في المئة من كلفة القيمة المضافة في تلك الهواتف.

ومع أن هاتف “آيفون” يشكل حالة فريدة باعتباره أحد الأجهزة الرقمية الأكثر دقة وتعقيداً في الوجود، بسبب اعتماده على مجموعة استثنائية من التقنيات، إلا أن توسيع نطاق عمله في الصين يحمل أبعاداً أكثر عمقاً من ذلك. ففي غالبية المنتجات التي تصنعها، لم تعد الشركات الصينية تكتفي بتجميع المكونات الأجنبية الصنع، بل انتقلت إلى مرحلة باتت تبتكر فيها تقنيات متطورة، بالتالي إلى جانب هيمنتها على سوق تجهيزات الطاقة المتجددة، اكتسبت الصين اليوم مكانة ريادية في مجال التكنولوجيات الناشئة على غرار الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، حتى إن تلك النجاحات أدت إلى زعزعة أسس المفهوم السائد بأن الريادة العلمية تترجم بصورة حتمية إلى إمساك بزمام الريادة في الصناعة. ومع أن مساهمات الصين لا تزال خجولة في مجالي البحوث الريادية والابتكار العلمي، فقد نجحت هذه الدولة في توظيف معرفتها بالآليات العملية، أي قدرتها على تطوير قطاعات صناعية جديدة كاملة، كي تحرز التقدم في المنافسة مع الولايات المتحدة، ضمن مجموعة متزايدة من التقنيات التي تحوز أهمية استراتيجية.

مع تصاعد المنافسة مع بكين، قررت حكومة الولايات المتحدة تقييد الصين ومنع نفاذها إلى وسائل التكنولوجيا الغربية الأساسية، واستمرت في ترسيخ تقليدها الراسخ في مجال الابتكارات العلمية. واستناداً إلى ذلك، فرضت إدارة بايدن عام 2022 قيوداً جديدة واسعة النطاق على بيع تكنولوجيا الرقاقات الإلكترونية المتقدمة الغربية للشركات الصينية، بالترافق مع تقديم الدعم للتكنولوجيا الأميركية عبر إقرار “قانون الرقاقات الإلكترونية والعلوم” CHIPS and Science Act المدعوم بتمويل مقداره 280 مليار دولار. ومن شأن هذا القانون، إلى جانب “قانون الحد من التضخم” Inflation Reduction Act، أن يساعد الولايات المتحدة كثيراً على استعادة بعض تفوقها في مجال إنتاج أشباه الموصلات وتجهيزات الطاقة المتجددة. في المقابل، يشير استمرار تقدم المهارة التقنية للشركات الصينية إلى أن هذه المقاربة ربما تغفل مشكلة أساسية أكثر أهمية، تتمثل في أن نهوض الصين لم يحصل كنتيجة حصرية لاستنساخ أفكار شركات الغرب وسرقتها، وكذلك لم يعتمد على الاكتشافات الجديدة في مجال العلوم. فبصورة وازنة ومؤثرة، تتمثل أحد أكبر محفزاته بالتحسينات التي أدخلت على القدرات التصنيعية الصينية ذاتها التي اكتسبت بفضل القوى العاملة الصينية الكبيرة والمتمرسة تقنياً. وقد بدأت مواطن القوة هذه تتجلى للعيان في رد الصين على القيود الأميركية المفروضة على الرقاقات الإلكترونية في السنوات القليلة الماضية. ففي الماضي، دأبت الشركات الصينية على تجنب أنواع التكنولوجيا المحلية، ومالت إلى شراء الأفضل، وقد جرت العادة أن يكون ذلك الأفضل أميركياً في غالب الأحيان، لكنها باتت اليوم، بعد أن منعتها واشنطن من ذلك، تبذل جهداً أكبر لتطوير قطاع رقاقات إلكترونية محلي مزدهر.

استطراداً، ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها أن تحول الصين إلى قوة تكنولوجية عظمى يحمل في طياته دروساً بالغة الأهمية. والحال أن الصين، بعكس الغرب، ارتأت عدم جعل البحوث الراقية والعلوم المتقدمة قاعدة قطاعها التكنولوجي، مفضلة على ذلك مهمة أقل تألقاً تمثلت بتطوير قدراتها في التصنيع، بالتالي إذا كانت واشنطن جدية في مساعيها الهادفة إلى منافسة الصين تكنولوجياً، فلا بد من أن تسلط الضوء على آفاق أبعد بكثير من العلوم الريادية، فتتعلم كيف توظف قواها العاملة على غرار ما فعلته الصين، كي تتمكن من توسيع نطاق ابتكاراتها، وتطور منتجاتها بطريقة أفضل وفاعلية أكبر. واستطراداً، إذا أرادت الولايات المتحدة أن تستعيد موقعها الريادي في مجال التقنيات الناشئة، سيكون عليها اعتبار الصناعة جزءاً لا يتجزأ من التقدم التكنولوجي، وليس مجرد استعراض جانبي ومواز لمبادرات الابتكار والبحث والتطوير التي تنطوي على قدر أكبر بكثير من الإثارة.

الارتقاء بمكانة الصين نحو العلا

يشكك مراقبون كثيرون في المكانة القيادية للصين في مجال التكنولوجيا، وذلك أمر مبرر، إذ لم تؤسس الصين سوى عدد قليل من الشركات المتعددة الجنسيات أو العلامات التجارية المعروفة عالمياً. وعلى عكس اليابان وكوريا الجنوبية، لم تنجح الصين في استحداث فئات جديدة من المنتجات الإلكترونية الاستهلاكية، على غرار الكاميرات الرقمية أو أجهزة الألعاب. وكذلك، تعذر عليها منافسة أوروبا والولايات المتحدة في مجال تصنيع السيارات أو طائرات الركاب. وعوضاً عن ذلك، ركزت الشركات الصينية على تصنيع منتجات يمكن بيعها بأسعار أرخص في دول العالم النامية، مع الإشارة إلى أن الشح النسبي للعلامات التجارية الصينية الرائدة رسخ اعتقاد الغرب بأن الصين هي أرض مصانع أكثر من كونها مرفقاً ناشطاً في مجال الابتكار.

استطراداً، تبقى الصين متأخرة فعلاً عن الغرب في عدد من التكنولوجيات البالغة الأهمية. وكذلك يصح القول بأن قطاع الرقاقات الإلكترونية الصيني معروف ببعض الإنجازات التي يمكن التنويه بها وتشمل تصميم رقاقات إلكترونية للهواتف الجوالة ومجموعة من شرائح الذاكرة المتقدمة. في المقابل، تبدو الشركات الصينية العاملة في مجال تصنيع الرقاقات التي تهندس داراتها الإلكترونية بطريقة تجعلها تتفاعل مع مؤشرات لغة المنطق الرقمي وهو وصف ينطبق على معالجات المعلومات المستعملة في المنتجات الرقمية كلها، متأخرة بما لا يقل عن خمس سنوات مقارنة مع شركة “تي أس أم سي” TSMC التايوانية التي تحتل موقع القيادة في إنتاج أشباه الموصلات المتطورة. [يطلق تعبير الرقاقة المنطقية على الشرائح الإلكترونية عملها لا يقتصر على مرور التيار الكهربائي أو توقفه، كالرقاقات العادية، بل يضاف إلى ذلك التجاوب مع أوامر مبرمجة تتضمن مؤشرات من منطق البرمجيات، كأن تتصرف بالطريقة “أ” بالاستجابة إلى الأمر “إذا”، وبالطريقة “ب” بالاستجابة إلى الأمر “أو” وهكذا]

 وعلى نحو مماثل، لا تحوز الصين سوى مكانة ضعيفة على صعيد تطوير الأدوات المتخصصة المطلوبة لتصنيع الرقاقات الإلكترونية، بل إن شركاتها العاملة في ذلك المجال أشد وهناً من مؤسساتها التي تعمل في صناعة الرقاقات الإلكترونية. وكي تتمكن من تصنيع آلات الطباعة الليثوغرافية lithography machines البالغة الأهمية التي تستخدم في “حفر” خرائط شبكات الدارات الإلكترونية على رقاقات السيليكون [بمعنى أنها تعطيها الأساسي الكهربائي لعملها كله]، وتجهيزات المقاييس والموازين المستخدمة في مراقبة النوعية خلال عملية الإنتاج التي تتطلب مئات الخطوات، تفرط الشركات الصينية في الاعتماد على الاستيراد من اليابان والولايات المتحدة وأوروبا. وكذلك لم تنجز الشركات الصينية سوى انطلاقة بسيطة في مجال ابتكار البرمجيات الحاسوبية الضرورية في تصميم الرقاقات الإلكترونية الأكثر تقدماً.

تسود ديناميكية مماثلة في قطاع الطيران الصيني. ويكفي التفكير في “مؤسسة الطائرات التجارية الصينية” (كوماك)Commercial Aircraft Corporation of China (COMAC) التي جاءت بمثابة رد صيني على شركتي “إيرباص” و”بوينغ”. وتجسد “كوماك” استثماراً حكومياً تملكه الدولة التي تدعمه بتمويل يناهز الـ71 مليار دولار. وقد تأسست هذه المجموعة منذ 15 عاماً. مع ذلك، فلقد بدأت بالكاد في إنتاج أولى طائراتها التجارية الصالحة للتشغيل. وبشيء من الألم، تدرك الشركات الصينية في مجالي الرقاقات الإلكترونية والطيران أن عدداً كبيراً من العناصر المكونة الأساسية لديها لا يزال يستورد من الغرب. ويشمل ذلك تجهيزات الإنتاج والأدوات البرمجية المتقدمة بالنسبة إلى مصنعي الرقاقات الإلكترونية، والمحركات وأنظمة إلكترونيات الطيران بالنسبة إلى طائرات “كوماك”. ومن المؤكد أن اعتماد الصين على تكنولوجيا الغرب هو من النوع الذي سمح للقيود الأميركية على الرقاقات الإلكترونية بتقويض ركائز الشركات الصينية وبث الفوضى فيها.

الصين اليوم تنافس اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان في مدى السيطرة على شبكة الإمدادات بالإلكترونيات

لكن على رغم هذه الثغرات الخطرة كلها، تحرز الصين تقدماً سريعاً على صعيد تقنيات كثيرة أخرى، إذ ارتقت الشركات الصينية بمقامها في مواجهة نظيراتها الأوروبية واليابانية في مجال إنتاج الآلات المتقدمة على غرار الأذرع الروبوتية، والمضخات الهيدروليكية، وغيرها من التجهيزات. وقد أثبتت هواتف “آيفون” أن الصين باتت اليوم تنافس اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان في هيمنتها على سلسلة الإمدادات الإلكترونية. وعلى صعيد الاقتصاد الرقمي، وعلى رغم من مساعي الرئيس شي جينبينغ، أخيراً، لتشديد القبضة الحكومية على شركات الإنترنت على غرار “علي بابا” و”تنسنت” و”ديدي”، تبقى الصين محافظة على قوتها. وبالفعل، لا تزال الشركات الصينية قادرة على منافسة عمالقة التكنولوجيا في وادي السيليكون بشراسة. ويشبه ذلك تماماً نجاح تطبيق “تيك توك” الذي استحدثته شركة “بايتدانس”، في منافسة تطبيق “فيسبوك”. وتتصدر الصين العالم في مجال تطوير بنية تحتية عصرية، تشمل خطوط نقل الكهرباء بالفولتية المرتفعة جداً، وخطوط قطارات سريعة، وشبكات الجيل الخامس (5 جي) 5G للخليوي. وقد أصبحت أول دولة ترسل عربة فضائية (روفر) هبطت بنجاح على الجانب المظلم لسطح القمر. وبعد ذلك بسنة، نجح علماء صينيون في إنجاز التواصل عبر الأقمار الاصطناعية المعتمد على التشفير الكمومي، فأصبحوا على قاب قوسين من استحداث شبكة اتصالات كمومية غير قابلة للاختراق. وفي الواقع، تشكل هذه الإنجازات كلها تعبيراً عن الجهود المستدامة التي تبذلها الصين للاضطلاع بمهام أكثر وأكثر صعوبة.

وإذا نظرنا إلى المشهد العام، يظهر التقدم التكنولوجي الصيني ديناميكية أكبر بكثير مما توحي به البلاد. وصحيح أن الصين تبقى متأخرة في عدد من المجالات الحيوية، إذ يواجه بعض أهم شركات التكنولوجيا ضغوطاً من السلطات التشريعية في واشنطن وحتى بكين، لكن بغض النظر عن هذه التحديات، نجحت الصناعات الصينية في الوصول إلى معايير عالمية، وتحقق البلاد تقدماً مستداماً في مجال العلوم. وفي سياق ذلك، شرعت الشركات الصينية في استحداث ابتكارات مهمة من إنتاجها، في قطاعات استراتيجية سبق أن منحتها الولايات المتحدة أولوية.

قوة عظمى في الطاقة الشمسية

تدخل تجهيزات إنتاج الطاقة المتجددة في عداد أهم الإنجازات التكنولوجية الصينية في السنوات القليلة الماضية. وقد شهد مطلع القرن الـ21 نشوء سوق تجارية لتقنيات الطاقة الشمسية جاء القسم الأكبر من الابتكارات فيها من الولايات المتحدة، فبدت هيمنة الشركات الأميركية على هذا القطاع منطقية للغاية. في عام 2010، صنف “مجلس الدولة” في الصين، وهو الشعبة التنفيذية للحكومة المركزية في البلاد، أنظمة توليد طاقة شمسية بوصفها “قطاعاً صناعياً استراتيجياً ناشئاً”، ما أطلق منظومة من أشكال الدعم الحكومي وإنشاء الشركات الخاصة، تمثل الهدف الأساسي منها بتنمية القدرات التصنيعية. وفي سياق ذلك، تعلمت الشركات الصينية مبادئ تحويل الطاقة الشمسية إلى كهرباء ذات قوة فولتية، وبدأت تعمل على إدخال تحسينات إلى طرق إنتاجها. واليوم، أصبحت الشركات الصينية اليوم على كل جزء من سلسلة الإمدادات بالطاقة الشمسية، بدءاً بمعالجة مادة الــ”بولي سيليكون” المستخدمة في الخلايا الشمسية وانتهاء بتجميع الألواح الشمسية. وعملت أيضاً على تطوير التكنولوجيا في حد ذاتها، بالتالي ما عادت الألواح الشمسية الصينية تكتفي بكونها الأرخص في السوق، بل أضحت أيضاً الأكثر كفاءة. واللافت أن التراجع الحاد والسريع في كلفة الطاقة الشمسية، على امتداد العقد الماضي، جاء بتحفيز من الابتكارات في مجال التصنيع في الصين.

على امتداد السنوات القليلة الماضية، ضمنت الشركات الصينية لنفسها مكانة قوية في مجال إنتاج البطاريات العالية القدرة التي تشغل المركبات الآلية العاملة بالكهرباء. ومع ابتعاد العالم عن محركات الاحتراق الداخلي، باتت تكنولوجيا البطاريات المتقدمة تشكل العنصر المكون الأهم في مجال تصنيع السيارات. واليوم، باتت الصين تقود ذلك القطاع. وباتت شركة “كاتل” CATL الصينية التي تأسست عام 2011، أكبر مصنعة بطاريات في العالم، وعقدت شراكات مع شركات السيارات الكهربائية الكبرى على غرار “بي أم دبليو”، و”تسلا”، و”فولكسفاغن”. ولا يقتصر تفوق شركة “كاتل” على قدرتها الإنتاجية التي تزيد إلى حد كبير عن قدرة الشركات المنافسة، ما يتيح خفض الكلفة، كونها تحتل الصدارة أيضاً على صعيد تطوير مواد كيماوية مركبة جديدة أكثر فاعلية، على غرار بطاريات أيونات الصوديوم القابلة للإنتاج من دون الاستعانة بمعادن الليثيوم والكوبالت النادرة.

وقد أقرت إدارة بايدن بالمخاطر الناجمة عن الاعتماد على الصين في الوصول إلى التكنولوجيات الأساسية الضرورية لانتقال الولايات المتحدة إلى الصناعات الخضراء المراعية للبيئة، بيد أن الصين استطاعت الاحتفاظ بهيمنتها على قطاع إنتاج الطاقة الشمسية، على رغم موجات التعرفات الجمركية المتعددة التي فرضتها عليها الولايات المتحدة، والتحقيقات التي أجراها الأميركيون في مزاعم تفيد بأن الصين تلجأ إلى العمالة القسرية على أراضيها ضمن سلسلة الإمدادات المتعلقة بمادة “بولي سيليكون”. وقد أجرت وزارة التجارة الأميركية تحقيقاً من هذا النوع، كان سيؤدي إلى رفع التعرفات الجمركية بمفعول رجعي على واردات الطاقة الشمسية بما كان سيصل إلى 250 في المئة، وهو أمر تسبب في اضطراب وفوضى في أوساط شراة أنظمة الطاقة الشمسية الأميركيين. وفي يونيو (حزيران) 2022، اضطر الرئيس جو بايدن إلى إصدار أمر تنفيذي بتجميد أي تعرفات من هذا القبيل خلال السنتين القادمتين. وبموازاة ذلك، أقر بايدن “قانون الحد من التضخم” في أغسطس (آب) 2022 بهدف الإسراع قدر الإمكان في الانتقال إلى المركبات الآلية الكهربائية في الولايات المتحدة. في المقابل، يبقى هذا القانون مجمداً، لأن مجموعة كبيرة من أنواع السيارات الكهربائية في السوق ليست مؤهلة للحصول على إعانات السلطات الفيدرالية الممنوحة للسيارات الكهربائية، بالتالي ستبقى الولايات المتحدة، ومعها عدد كبير من الدول الحليفة لها في الغرب، معتمدة إلى حد كبير على الصين، كي تستمر [أميركا وحلفاؤها] في مسعاها للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. [يتضمن قانون الحد من التضخم تقديم تمويل حكومي للشركات التي تسهم في الانتقال إلى الطاقة البديلة كالسيارات الشمسية، ما يسهم أيضاً في كبح دورة التضخم]

صحيح أن الصين اليوم تهيمن على قطاعات تصنيع العناصر المكونة لأنظمة الطاقة الشمسية، وبطاريات السيارات الكهربائية، والإلكترونيات، لكن ذلك لم يأت من الفراغ. فبشكل وثيق، يتصل أمر ذلك التقدم السريع بمواطن قوة البلاد في مجالي التصنيع ومراقبة النوعية. فمن المعروف عن القوى العاملة الصينية أنها انتقلت، منذ مطلع تسعينيات القرن الـ20 وحتى اليوم، من إنتاج ألعاب بسيطة ومنسوجات، إلى الاضطلاع بعمليات شديدة التعقيد تعتبر ضرورية في تصنيع أجهزة إلكترونية متطورة ومعقدة، على غرار هواتف “آيفون”. وبموازاة ذلك، غالباً ما حققت الشركات الصينية تقدماً ملحوظاً بواسطة وسائلها الخاصة. ففي الصين، لم تصدر الابتكارات من الجامعات أو مختبرات البحوث، إنما من طريق عملية تعليم هي وليدة الإنتاج الصناعي الموسع بحد ذاته، بالتالي لا شك في أن المسؤول الأكبر عن الارتقاء بمكانة البلاد على صعيد التكنولوجيا المتقدمة، هو قدرتها المذهلة على التصنيع. 4ثورة تكنولوجية خفية في الصين

طباخون أفضل، أطباق أحسن

بحسب السرديات كلها، جاء التطور التكنولوجي الذي عرفته الصين مقابل ثمن باهظ. وفي قراءة للحوادث قد تكون الأكثر كرماً [حيال الصين]، يمكن القول إن بكين أرست مكانة ريادية للبلاد من طريق هدر خيالي لموارد الدولة، إذ ولدت الإعانات الضخمة التي قدمتها الدولة تأثيراً يحرف الحقائق. وبالفعل، كشفت دراسة نشرها “المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية” National Bureau of Economic Research في “جامعة كامبريدج”، بولاية ماساتشوستس، أن بكين معروفة بسوء اختيارها للفائزين، إذ جرت العادة أن تكون مستويات النمو التي يحققها من يفوزون بالإعانات الحكومية الصينية، هي الأكثر انخفاضاً. ويرى عدد كبير من النقاد أن التقدم الذي أحرزه الصين نتج في غالب الأحيان عن النزعة الحمائية المفرطة وعن انتشار سرقة الملكية الفكرية.

وعلى رغم من وجود بعض من الحقيقة في هذه المزاعم، فإنها ليست كافية لتفسير ارتقاء الصين بمكانتها. ففي مقابل كل مثل حقق فيه قطاع صناعي صيني المكاسب من السياسة الحمائية، على غرار منصة “بايدو” الإلكترونية التي ازدهرت خلف جدار الحماية العظيم، يظهر مثل نقيض له، على غرار قطاع تصنيع السيارات الصيني، إذ فشلت إجراءات وقائية مماثلة عن إطلاق شركات صينية بمستوى عالمي. ولعل النقل القسري للتكنولوجيا وسرقة الحقوق الفكرية قد ساعدا على تطوير بعض الصناعات، ويحق للولايات المتحدة وحلفائها الاعتراض على ممارسات من هذا النوع. واستطراداً، لا تقدم تلك الأمور تفسيراً كافياً لصعود الصين في مجالات تصنيع البطاريات، والهيدروجين، والذكاء الاصطناعي.

بدلاً من ذلك، يتمثل العنصر الأهم في ازدهار الصناعات التكنولوجية الصينية بالأطر والأجواء العامة التي تتنافس فيها شركات التصنيع في البلاد. فعلى امتداد العقدين الماضيين، طورت الصين قدرة إنتاجية لا نظير لها في الصناعات التي تعتمد بكثافة على التقنية، إضافة إلى دعم تلك القدرة بشبكة كبيرة من العاملين المحترفين، وتجمعات كبيرة للشركات الموردة، ودعم حكومي واسع النطاق. وبصورة جزئية، تستند تلك القوة جزئياً إلى تاريخ الصين الصناعي. ففي عقود سابقة، أعطت الحكومة أهمية خاصة للصناعة، فجاءت النتائج كارثية خلال ما سمي “القفزة العظيمة إلى الأمام” أيام الزعيم الصيني السابق ماو تسي تونغ [أسس الحزب الشيوعي الصيني واستولى على الحكم واستمر في قيادة البلاد حتى وفاته في سبعينيات القرن الـ20]، وكانت أكثر فاعلية أيام دينغ كسياو بينغ مع خطته التي عرفت باسم “الحداثات الأربعة” [شملت تلك التحديثات أربعة قطاعات هي الزراعة والصناعة والجيش والعلوم والتكنولوجيا]، لكن ابتداء من تسعينيات القرن الـ20، باتت مبادرات الحكومة المركزية أقل أهمية من محفزات السوق، مع الارتفاع الكبير في قدرة الصين في مجال التصنيع، عقب انضمام البلاد إلى “منظمة التجارة العالمية” عام 2001.

على امتداد العقد الماضي، أجج شي جينبينغ ولع الصين بمجال التصنيع إلى أقصى الحدود. وبعد مرور عامين على توليه مقاليد السلطة، أطلق خطة سميت “صنع في الصين 2025” التي حددت إطاراً سياسياً شاملاً يهدف إلى الارتقاء بالقاعدة الصناعية للصين، وإبعادها عن الصناعات التي تتطلب قوى عاملة بأعداد كبيرة، وتوجيهها إلى القطاعات التقنية المتقدمة. وشهد عام 2021 إطلاق أحدث خطة خماسية حكومية هدفها تحويل الصين إلى “قوة صناعية عظمى”. إن هذا الهدف ليس حبراً على ورق، فعلى امتداد العقود القليلة الماضية، عملت بكين على تحويل مبالغ مالية طائلة خصصتها للطاقة والقروض الرخيصة الكلفة، ووجهتها إلى شركات التكنولوجيا المتقدمة، حتى لو كانت تلك الشركات على بعد سنوات من البدء في تحقيق الأرباح.

صُنعت الابتكارات التقنية الصينية في المصانع لا المختبرات

يعتبر قطاع إنتاج الطاقة الشمسية خير مثل على ذلك. وقد أغدقت عليه الحكومة أموال الدعم، وشجعت بالتالي عدداً كبيراً من الشركات على دخول هذا القطاع، لكن ذلك الأمر نفسه زاد مستويات المخاطرة في مجال ريادة المشاريع، وتأتى عنه قطاع تصنيع يتسم بالمنافسة الشرسة، وتسري عليه مقولة “إن لم تكن ذئباً، أكلتك الذئاب”. وبالنتيجة، باتت الشركات الصينية تهيمن اليوم على صناعة استراتيجية يعتمد عليها العالم أجمع.

واستكمالاً، يلاحظ أن هذه المقاربة المستندة إلى الاستمرار في تشجيع الصناعة إلى أن تبلغ نقطة تحقق فيها فائضاً في القدرات، تتعارض بشدة مع السياسة الاقتصادية المعيارية الراسخة في معظم دول الغرب التي تسلط الضوء على أنشطة عالية القيمة على غرار البحث والتطوير، وتصميم العلامات التجارية للمنتجات، مع التقليل من شأن الإنتاج الفعلي، باعتباره عملية ثانوية يمكن تحقيقها مقابل كلفة متدنية خارج البلاد، بل في آسيا غالباً.

لقد اكتسبت مقاربة بكين المتمحورة حول قطاع التصنيع أهمية كبرى لتمكين البلاد من منافسة الغرب في مجال التكنولوجيا المتقدمة. وكي يكون فهم سبب ذلك ممكناً، من الضروري الإقرار بطبيعة القوى التي تسهم في إنجاح الابتكارات. ويمكن تشبيه استحداث تقنيات جديدة بإعداد عجة البيض، تكون مكوناتها وتعليماتها وتجهيزات المطبخ الجيدة فيها، نافعة ومفيدة لكن مجرد توفرها لن يضمن نتيجة جيدة. حتى إن الناس الذين يستخدمون أفخم التجهيزات وأفخر وصفة قد لا يتمكنون من إعداد عجة لذيذة إن لم يكونوا قد تمرسوا على إعدادها، بالتالي ثمة عنصر إضافي مطلوب ويتمثل في الخبرة العملية والمهارات اللازمة التي لا يمكن اكتسابها إلا عبر الممارسة. ويمكن الإشارة إلى ذلك بأنه توفر المعرفة العملية، ويشكل جزءاً مما أسهم في تحول الصين إلى قوة عظمى في مجال الابتكار التكنولوجي.

مع أنه من الصعب قياس المعرفة العملية، إلا أنه من المستطاع تقدير حجمها عبر النظر في مستويات الخبرة التي تحوزها القوى العاملة عموماً، وعبر استحداث منظومات من الأنشطة الصناعية. وتحوز الصين قدرات مهمة في الأمرين السابقين كليهما، إذ يتمثل أكبر إنجاز تكنولوجي حققته البلاد على امتداد العقدين الماضيين بتطوير قوى عاملة كبيرة العدد، ومعروفة بخبرتها العالية ومهاراتها التي يمكن تكييفها وفق الحاجة التي تتناسب مع الصناعات الأكثر اعتماداً على التقنيات. ومثلاً، لا تزال شركة “أبل” تعتمد على الصين، باعتبارها الدولة الوحيدة القادرة على استقدام مئات آلاف العاملين المتمرسين من أصحاب الخبرات العالية بصورة شبه فورية، والنفاذ بسرعة إلى شبكات كبيرة من موردي المكونات، والاعتماد على الدعم الحكومي في المساعدة على حل مشكلات كثيرة التشعبات، قد تحصل عند إنتاج ملايين هواتف “آيفون” سنوياً.

لكن لا بد من الالتفات إلى مسألة أخرى، هي الطريقة التي استعانت فيها الصين بالشركات الأجنبية كي تساعدها على تطوير تجمعات صناعية، أو ما أطلق عليه خبير الاقتصاد براد ديلونغ تسمية “مجتمعات الممارسة الهندسية”. وفي الوقت الحاضر، بات عدد من الشركات الأميركية، من بينها “كاتربيلر” و”جنرال إلكتريك” و”تسلا”، من كبار أرباب العمل في الصين. وبالتوازي مع ذلك، تعمل شركات صناعية تعاقدية على إدارة العاملين في الصين، من بينها “فوكسكون” و”بيغاترون” التي تعمل على تصنيع معظم منتجات “أبل”. وعلى عكس اليابان التي أبقت على سوق منغلقة على امتداد عقود من النمو بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أعطت الصين زخماً لنهوضها الصناعي، عبر التعلم من الشركات الأجنبية مباشرة. وعلى رغم من الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، امتنعت الصين عن الرد والانتقام من الشركات الأميركية في الصين. ويعود السبب جزئياً إلى كونها تعترف بالخبرات الإدارية التي يأتي بها الأميركيون، وتقر بأنهم ينقلون الخبرات في مجال الصناعة إلى العاملين الصينيين.

وفي سياق متصل، اكتسب العمال الصينيون مهارات عبر الاطلاع الدائم على عمليات التصنيع العالمية الرائدة، اكتسبوا، وتمكنوا من نقلها إلى الشركات المحلية. وفي هذا الصدد، يكفي التفكير في بطاريات السيارات الكهربائية التي يتطلب تصنيعها نحو 12 خطوة مستقلة، علماً أنه لا يمكن الانتقال إلى الخطوة التالية ما لم تنجز الخطوة السابقة على أكمل وجه. ومن دون شك، أكسبت الخبرة في المنتجات الإلكترونية الاستهلاكية، المديرين الهندسيين الصينيين معرفة عملية لا يمكن الاستغناء عنها لإنجاز هذه المهمة. وقد شكل هذا النقل للخبرة العملية في مجال التصنيع، جزءاً محورياً في سيطرة الصين على الصناعة المتصلة بالطاقة الشمسية. وبفضل سخاء في أموال الدعم وبمساعدة توفر الوصول إلى قوى عاملة ماهرة، استطاعت الشركات الصينية بسرعة إنتاج ألواح شمسية أفضل وأرخص مما أنتجته نظيراتها في ألمانيا والولايات المتحدة. وبصورة متصاعدة، عملت تلك الابتكارات في مجال التصنيع على رسم معالم القطاع الصناعي عالمياً. وقد ظهر ذلك في أن كل التقدم الذي أحرز في مجال الطاقة الشمسية على امتداد العقد الماضي لم يأت من الاكتشافات العلمية، لا سيما في الولايات المتحدة، بقدر ما أنه اكتسب زخمه من خفض الكلفة عبر زيادة فاعلية الإنتاج، وهو موطن القوة الأساسي لدى الصين.

يؤكد سطوع نجم مدينة شينجين، كمرفق عالمي للتكنولوجيا، على أهمية المعرفة العملية. ففي السنوات التي تلت بداية الإنتاج الموسع لهواتف “آيفون” عام 2007، طورت المدينة قطاع تصنيع تكنولوجي محلي حافل بالنشاط، جرى تحسينه وتكييفه ليكون قادراً على إنتاج أجهزة معقدة ودقيقة. وسرعان ما وظف العاملون هناك الخبرات الهندسية والإنتاجية التي اكتسبوها لابتكار منتجات أخرى. ووضعت مختبرات البحث والتطوير بالقرب من مصانع الإنتاج، فصار المهندسون في شينجين قادرين أكثر من أي كان على النفاذ إلى موردي المكونات، والعمالة الخبيرة، والمصممين المحترفين. واليوم، اكتسبت مدينة شينجين مكانة رائدة في مجال تصنيع الطائرات المسيرة المعدة لاستخدام الجمهور، ونظارات الواقع الافتراضي، وغيرها من الأجهزة الإلكترونية الحديثة. وتقف خلف هذا التفوق كله قوى عاملة ماهرة، اختلطت طوال سنوات مع رواد مشاريع جريئين، في حقبة هبطت فيها أسعار مكونات الأجهزة الإلكترونية كالكاميرات والبطاريات والشاشات، فأصبحت مدينة شينجين تشبه منطقة خليج سان فرانسيسكو في أميركا، وباتت ملتقى دائماً للباحثين الجامعيين، ورواد المشاريع، والعاملين، والمستثمرين، بالتالي لا عجب أبداً في أن تكون قد تحولت إلى “وادي سيليكون” الأجهزة التكنولوجية المتقدمة.

العلوم، وليس الصناعة

في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، استغلت الولايات المتحدة مكانتها الرائدة في مجال العلوم كي تهيمن على عدد كبير من قطاعات التكنولوجيا الناشئة، بدءاً بقطاع أجهزة الكمبيوتر ومروراً بقطاع الطيران. وبدا الأمر منطقياً في نظر واشنطن، إبان مرحلة شكلت فيها التصاميم المستحدثة والابتكارات المختبرية جزءاً رئيساً من المنافسة المستعرة آنذاك مع الاتحاد السوفياتي في سياق “الحرب الباردة”. وقد بدت تلك المقاربة كأنها تحظى بدعم في السوق. وفي تسعينيات القرن الـ20، أشار رائد مشاريع الإلكترونيات التايواني ستان شيه إلى أن تحقيق معظم الأرباح في قطاعات التكنولوجيا يحصل عند بداية سلسلة القيمة، أي في مراحل التصميم والبحث والتطوير، وكذلك في نهايتها أثناء مرحلة تسويق المنتج، مع الإشارة إلى أن نسبة الأرباح الأقل تسجل في مرحلة التصنيع الفعلي التي تحل منتصف سلسلة القيمة. وخير مثل على هذا المنحنى البياني، الذي يتخذ شكل قوس الابتسامة، يتجسد في شركة “أبل” ذات القيمة الأكبر عالمياً التي تعني بتطوير منتجاتها وتسويقها، فيما تترك عملية التصنيع التي تحقق هامش أرباح منخفضاً، لشركائها في الصين ودول آسيوية أخرى. وبالاستناد إلى هذه الرؤية، ركزت الولايات المتحدة معظم الأحيان على البحث والتطوير خلال العقدين المنصرمين، واعتمدت على الصين تحديداً في تلبية عدد كبير من متطلباتها في مجال التصنيع.

مصنع بطاريات في تشانغجو بالصين بتاريخ نوفمبر 2019

مصنع بطاريات في تشانغجو بالصين بتاريخ نوفمبر 2019 (رويترز)

بنتيجة هذا التشديد الطويل الأمد، بقيت الولايات المتحدة تتصدر عدداً من القطاعات الصناعية التي تتطلب تكاملاً معقداً بين عدد من المجالات العلمية المختلفة. ومع أن شركتي “إنتل” و”بوينغ” كانتا أفضل حالاً في مرحلة سابقة، لا تزال الولايات المتحدة رائدة في مجالي تجهيزات إنتاج أشباه الموصلات، ومحركات الطائرات. وبشكل بارز، يستلزم المجالان كلاهما اختصاصات متعددة إلى حد كبير، كون قطاع الطيران يعتمد على علوم الحركة الهوائية، وعلم المواد، والهندسة الميكانيكية، وغيرها من المجالات العالية التخصص. وعلى العكس من الولايات المتحدة، ليس لدى الصين تقليد بالذهاب إلى أبعد من الحدود العلمية المتعارف عليها. وفي الواقع، تكاد الصين ألا تنشط أبداً في مجال العلوم الرائدة في تلك الصناعات، ولديها سيرة تفتقر إلى تسويق البحوث المفيدة.

لكن، ليست الأمور كلها على أفضل حال في قطاع التكنولوجيا الأميركي، إذ بالغت شركات كثيرة في اتباع منحنى “الابتسامة” على مر العقود القليلة الماضية، ووظفت موارد أكثر فأكثر عند أطراف المنحنى المذكور، فباتت القدرات التصنيعية تذوي وتتراجع. وقد خسرت الولايات المتحدة، منذ عام 2000، نحو خمسة ملايين وظيفة في قطاع التصنيع، أي زهاء ربع القوى العاملة لديها، مما تسبب في خسائر فادحة ومتتالية للمهارات. وقد طالت الخسارة أوساط عمال خطوط التجميع في المصانع، إضافة إلى الخبراء الميكانيكيين، والمديرين، ومصممي المنتجات. وعلى المدى الطويل، أوصل هذا التراجع الولايات المتحدة إلى مكانة ضعيفة لا تخولها الهيمنة على التقنيات الناشئة. ومثلاً، كان من المفترض أن تسمح مكانة الولايات المتحدة الرائدة في مجال العلوم بهيمنة البلاد على قطاع الطاقة الشمسية. وكانت واشنطن مستعدة للمساعدة على تحقيق ذلك. وبالفعل، فرض الرئيس الأميركي باراك أوباما في عام 2012، تعرفات جمركية على واردات تجهيزات الطاقة الشمسية الصينية، في مسعى منه لحماية المنتجين المحليين، لكن حتى مع تلك الإجراءات الحمائية، لم يستطع المصنعون الأميركيون حتى مجرد الدخول إلى حلبة المنافسة. وفي المقابل، كانت الصين مستعدة وقادرة على الاستعانة الفورية بقاعدة عملاقة من العاملين الماهرين والموردين، ونجحت بالتالي في توسيع نطاق إنتاجها من دون قيود تقريباً. في المقابل، أجرت الولايات المتحدة سلسلة من الإقالات شملت ملايين العاملين، فخسرت القسم الأكبر من المعرفة العملية التي كانت لديها، ولم تعد قادرة على تطوير قاعدة تصنيعية سليمة. وبالنتيجة، مع حلول عام 2022، بلغت قيمة واردات تكنولوجيا الطاقة الشمسية الأميركية ثمانية مليارات دولار، وأتت بمعظمها من شركات صينية تصنع منتجاتها في جنوب شرقي آسيا.

في الإطار الواسع، يشكل هذا الفشل الأميركي في قطاع الطاقة الشمسية جزءاً من تراجع أكبر وأهم يعيشه قطاع التصنيع الأميركي. وبصورة نسبية، نتج هذا المنحى عن تزايد الأتمتة، لكن ثمة مواطن ضعف داخلية أخرى تهدد التصنيع. ولنتذكر الأيام الأولى من جائحة كورونا. في ذلك الوقت، احتاجت الولايات المتحدة، على غرار شأن دول أخرى، إلى كميات ضخمة من تجهيزات الوقاية الشخصية وإمدادات طبية. ومع ذلك، واجهت الشركات الأميركية صعوبات في تكييف خطوط إنتاجها لتصنيع كمامات ومسحات قطنية [تستعمل الأخيرة في أخذ عينات من الأنف والحلق يجري فحصها للتثبت من وجود الفيروس أو غيابه]، وهي منتجات بسيطة كيفما نظرنا إليها، بسبب خسارتها قسماً كبيراً من المعرفة العملية الضرورية لذلك الأمر. وعلى النقيض من ذلك، نجحت شركات التصنيع الصينية في إعادة التزود بلوازم الطوارئ على جناح السرعة، وأنتجت عدداً كبيراً من الإمدادات الطبية التي احتاجتها الولايات المتحدة ودول أخرى بشكل ملح.

حتى الساعة، باءت بالفشل جهود الولايات المتحدة في إعادة الوظائف التصنيعية من آسيا إلى قلب البلاد. ومثلاً، انهارت محاولة كبيرة أقدمت عليها شركة “أبل” عام 2012 لزيادة تصنيع أجهزة الكمبيوتر المكتبية في ولاية تكساس، لأنها افتقرت إلى منظومة ملائمة في تصنيع مكونات تلك الأجهزة. ومع ذلك، ظهر استثناء، تمثل في نجاح الولايات المتحدة في إنتاج لقاحات كورونا المصنوعة بتقنية جينية تعتمد على “الحمض الريبي النووي المرسال” [= لقاح فايزر بيونتك] التي أثبتت فاعليتها أكثر من نظيراتها الصينية المستندة إلى تقنية تقليدية قوامها صنع لقاح من الفيروس جرى تعطيله أو إضعافه، لكن في حال أرادت الولايات المتحدة منافسة الصناعات المتقدمة الصينية في السنوات المقبلة، سيكون عليها تحقيق أكثر من انتصار وحيد في مجال التقنيات الحيوية.

إما توسيع الإنتاج أو الخسارة

صحيح أن بكين تتحدى مقاربة الغرب، وقد أحرزت أكثر من تقدم في التكنولوجيا، لكنها تعترف بمواطن ضعفها في مجال المعرفة العلمية. وبالفعل، أكد شي جينبينغ في التقرير الذي قدمه أمام المؤتمر الوطني الـ20 للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، على أن العلوم والتكنولوجيا ستكون من أهم أولويات الحزب. ومع أن تحسين ثقافة البحوث في البلاد ستتطلب وقتاً، تحرز الصين منذ الآن تقدماً مستداماً في قطاعات عدة، من بينها استكشاف الفضاء والاتصالات الكمومية. كذلك تتوق بكين بشكل خاص إلى تعزيز قدراتها في مجال تطوير أشباه الموصلات، بعد أن منع العملاقان الصينيان “هواوي” في الاتصالات و”سميك” SMIC في إنتاج الرقاقات الإلكترونية، من الوصول إلى تقنيات أشباه الموصلات الأميركية والأوروبية. وتمثلت إحدى النتائج غير المتوقعة للقيود الجديدة التي فرضتها واشنطن على الرقاقات الإلكترونية بقفزة قوية في الاستثمارات الصينية في مجالي العلوم، والبحث والتطوير.

على الضد من ذلك، لم تعالج الولايات المتحدة بعد النقص الحاد الذي تختبره في مجال المعرفة العملية. وبالطبع، ليس من شك في أن مصادقة الكونغرس على “قانون الرقاقات الإلكترونية والعلوم” و”قانون الحد من التضخم”، وقد أقرا في عام 2022، تمثل خطوة بالغة الأهمية نحو الأمام في مجال سياسة التصنيع، بالنظر إلى أن القانونين يخصصان تمويلاً فيدرالياً بمليارات الدولارات للتقنيات المتقدمة. من جهة أخرى، تركز معظم السياسات الأميركية، بما فيها هذان القانونان، على توسيع نطاق الاكتشافات العملية، بدلاً من التركيز على تطوير المعرفة العملية، واستحداث منظومات صناعية ضرورية تساعد على جلب المنتجات إلى السوق، بالتالي تسود مخاوف من أن تؤدي مقاربة واشنطن حيال تنافسها المتزايد مع الصين في مجال التكنولوجيا، إلى تكرار الأخطاء السابقة التي ارتكبتها في قطاع الطاقة الشمسية. ففي الحالة الأخيرة، أرسى العلماء الأميركيون أسس التقنيات الجديدة، ولم يعقب ذلك سوى أنهم رأوا الصين تتولى دفة القيادة في صنع المنتجات المستندة إلى تلك التقنيات. ويأتي أفضل الأمثلة على ذلك من قطاع إنتاج أدوات التحليل الكهربائي للماء تستخرج الهيدروجين منه، وقد صارت أداة أساسية في إنتاج الهيدروجين الأخضر المتوافق مع البيئة. فعلى غرار ما حدث مع الطاقة الشمسية، من المتوقع أن تهيمن الصين على قطاع الهيدروجين الأخضر، عبر تصنيع واسع النطاق لمنتجات أكثر فاعلية.

ستبقى الولايات المتحدة دوماً مكاناً يصعب فيه تصنيع المنتجات

عامل ديلفري يغفو فوق دراجته الكهربائية المركونة فوق رصيف في بكين بتاريخ 01 إبريل 2023

عامل ديلفري يغفو فوق دراجته الكهربائية المركونة فوق رصيف في بكين بتاريخ 01 إبريل 2023  (رويترز)

كي تتجنب الولايات المتحدة تكرار قصة الطاقة الشمسية، سيتوجب عليها منح أولوية أكبر لتصنيع التكنولوجيات المتقدمة. وقبل عقد من الزمن، أقر أندي غروف، الرئيس الأسطوري لشركة “إنتل”، بهذه المشكلة حينما دعا بلاده إلى تخفيف التركيز على “لحظة الابتكار الأسطورية”، لمصلحة زيادة التركيز على جلب الابتكارات إلى السوق [أي تحويلها إلى منتجات عملية]. واستطرد غوف ليصف تلك الخطوة [صنع منتجات عملية] بأنها “المرحلة التي تتوسع فيها الشركات بصورة فعلية”، بحسب مقالة تركت تأثيراً كبيراً عام 2010. وأضاف أنه في سياق مرحلة الإنتاج العملي، تنتقل الشركات إلى “العمل على تصميم التفاصيل، وتفكر في طريقة للعمل مقابل كلفة مجدية، ويبنون المصانع، وتوظف آلاف الأشخاص”، لكن كي يكون توسيع نطاق الإنتاج أكثر نجاحاً، لا بد للولايات المتحدة أن تتعلم التفكير بطريقة مختلفة في قيمة العمل التصنيعي، بالتالي لا بد لصانعي السياسات أن يقاوموا الرغبة في الاستهتار بعملية التصنيع، باعتبارها مجرد “نشاط سلعي” يمكن إنجازه خارج البلاد. وبدلاً من ذلك، يتوجب على أولئك الصناع أن يعتبروا الإنتاج الموسع للتكنولوجيات الجديدة يوازي في أهميته الابتكارات بحد ذاتها، باعتبار أنه نشاط يعتمد على معرفة عملية عميقة لا يمكن الحصول عليها إلا من طريق تحسين مستويات التدريب، والتكامل بين العاملين والمهندسين والعلماء.

من المؤكد أن الاستثمارات الأميركية الجديدة في الصناعات التكنولوجية، جراء إقرار “قانون الرقاقات الإلكترونية والعلوم” و”قانون الحد من التضخم”، ستسهم في قلب الموازين. وفي المقابل، على غرار ما فهمته الصين جيداً، ليس المال سوى البداية في تطوير قطاع تكنولوجي قابل للاستمرار، بالتالي لا بد من أن تترافق استثمارات من هذا القبيل مع جهود لوضع حد للارتفاع في الكلفة الذي يقوض جهود الأميركيين في تطوير بنية تحتية أفضل. ولا بد أن تشرع الكليات والجامعات في منح الطلاب تدريباً أفضل في مجال التصنيع المتقدم. ولا بد لواشنطن أن تتعلم كيف تحذو حذو بكين وتسعى إلى استقدام استثمارات أجنبية أكبر. وعلى غرار إدارة ترمب قبلها، دعت إدارة بايدن الشركات اليابانية والكورية الجنوبية والتايوانية إلى بناء مصانع رقاقات إلكترونية في الولايات المتحدة، ولا بد لهذه الشركات أن تلقى ترحيباً أيضاً بسبب خبراتها في البطاريات، والمجال الأوسع نطاقاً لسلاسل الإمدادات المتعلقة بالإلكترونيات.

بالطبع، يشير الواقع الاقتصادي إلى أن الولايات المتحدة ستبقى دوماً مكاناً يصعب فيه نسبياً تصنيع المنتجات، وذلك لأن البلاد فيها عدد سكان أقل ومتطلبات رواتب أعلى، ولأن الدولار الأميركي يبقى عملة احتياطي عالمية، مع ما ينتج عن ذلك من ارتفاع نسبي في كلفة تصنيع المنتجات محلياً، بالتالي لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون الفائزة في منافستها مع الصين في معظم مجالات التصنيع الكبيرة التي تعطي أعداداً كبيرة من كل منتج. ومن المرجح ألا تؤدي حملة إنعاش قدرات التصنيع الأميركية إلى استحداث عدد كبير من الوظائف، لأن أي مسعى في هذا الاتجاه سيتطلب خطوط عمل كثيرة الاعتماد على الأتمتة، وتستند إلى رأس المال أكثر من اتكالها على القوى العاملة. وبالطبع، لا يجدر بالولايات المتحدة محاولة صنع الأشياء كلها، بل حري بالسياسة الأميركية أن تستهدف الصناعات الاستراتيجية التي يمكن أن تحقق لها ميزة ملموسة مقارنة مع المنافسين.

في الواقع، لا يمكن إنكار أن الولايات تتمتع بمكانة جيدة في عدد من الصناعات من هذا القبيل، تخولها التفوق على الصين، بالتالي إذا عززت الولايات المتحدة قدراتها في مجال التصنيع، فستتمكن من توسيع نطاق ريادتها في مجالات التكنولوجيا الحيوية، وتجهيزات إنتاج أشباه الموصلات، ومحركات الطائرات. ولا بد لها من التأكد من أنها لن تخسر المنافسة في مجال الجيل التالي من تقنيات الطاقة، على غرار أدوات التحليل الكهربائي للماء، بالتالي، يتوجب أن تحاول استعادة بعض من سلسلة إمدادات الإلكترونيات من آسيا. إلى ذلك، وفي أعقاب فترات الإقفال التام المتكررة بسبب جائحة كورونا في بكين، وعقب الاجتياح الروسي لأوكرانيا، تسود المستثمرين مخاوف متزايدة حيال الاستثمار في الصين، وأمام الولايات المتحدة فرصة من ذهب لاستعادة الوظائف في مجال التصنيع، لكن من وجهة نظر أيديولوجية، قد تتمثل نقطة انطلاق باستحداث سياسة تصنيعية جديدة ترتكز على العاملين وعلى المعرفة العملية، بدلاً من التركيز على هوامش الربح. وإلا، فسيكون موقع الريادة من نصيب الصين، وليس الولايات المتحدة، في الثورة التكنولوجية القادمة.

* دان وانغ، محلل تكنولوجيا في شركة “غافيكالدراغونوميكس” GavekalDragonomics

فورين أفيرز

التعليقات معطلة.