ثورة لم تنته

1

 
 
سعود بن علي الحارثي
 
لا تتوقف حركة الكتابة والتأليف والنشر في الغرب حول مختلف العلوم والقضايا والمجالات والتخصصات الدقيقة، تحليلا وتشخيصا وتقييما وقراءة عميقة للمخرجات والآثار والنتائج، وتقديم الحلول والمعالجات والرؤى القيمة في حلقة تكاملية تتلاقى فيها كل الأطراف الفاعلة وتستفيد من بعضها البعض، في بيئة محفزة على الإبداع والعمل والتعاطي مع كل التطورات لتحقيق المزيد من التقدم والنجاحات والإنجازات والمكاسب العلمية، على عكس ما تشهده بيئتنا العربية من تنافر وتعطيل واهمال وإهدار للجهود والافكار وضعف في التنسيق بين العلماء والباحثين والفاعلين من جهة والساسة وصناع القرار والنافذين من جهة أخرى، ما يقود في نهاية الأمر إلى هجرة العقول والكفاءات إلى الغرب، ومع التقدم الهائل الذي تشهده العلوم وخاصة في مجال الحوسبة والنقل والاتصال التي تخدم البشرية والثورات المعلوماتية المتتابعة التي تعتمد على تقنياتها وأدواتها يواصل المفكرون والأكاديميون في الغرب تشخيص آثار هذه التقنيات والحواسيب على الإنسان خاصة في الجوانب الصحية والاجتماعية والنفسية والمطالبة بتحسينها وتجويدها بما يعزز قدرات الإنسان ويحفظ له خصوصياته الطبيعية التي خلق عليها. كتاب (ثورة لم تنته)، لكاتبه مايكل دير توزوس، الصادر عن (المنظمة العربية للترجمة) – برغم أنه نشر قبل عدة سنوات ولكنه لم يفقد أهميته كون أن العالم يشهد المزيد من الثورات المتتابعة في مجال بحثه – إذ يدور موضوعه حول القلق من التطور الهائل في علم الحوسبة وثورة المعلومات التي تتخذ من التقنيات الحديثة وسيلة للانتشار والتوسع والتراكم، على قيمنا الإنسانية التي تشكل ثقافتنا وحياتنا ومشاعرنا وعلاقاتنا مع الآخر، الخوف من أن تصاب بالتصحر والجفاف والتشوه حيث تسيرنا هذه الأجهزة وتبرمجنا وتقودنا إلى مستقبل مجهول في طريق قد يصبح معاكسا لغاياتها الحقيقية، (… بدأ الأمر بما أحسست به أنا وأحس الآخرون من إحباط مع تكرار محاولاتنا للسيطرة على الحواسيب لتوجيهها إلى أهدافنا، إلا أننا لم نلبث أن اكتشفنا أننا نحن أنفسنا من انتهى بهم الأمر إلى الوقوع تحت السيطرة)، وهنا يطالب الكاتب بالحرص على أن لا تخرج مسارات وأهداف التقنية الحديثة عن حيز الخدمات والتسهيلات المرتبطة بالإنسان والعمل على تيسير حياته وتوفير متطلباته، (ينبغي أن تركز نظم الحواسيب على احتياجاتنا وقدراتنا بدلا من أن تجبرنا على الركوع لها إزاء تفاصيلها الآلية المعقدة التي تستعصي على الفهم). ولا ينسى الكاتب أن يطرح سؤالا أساسيا يرتكز عليه موضوع الكتاب (هل كل هذه التقانة الجديدة المثيرة تجعلنا في حال أفضل؟ أم أننا نقاد نحو تعقيد أعظم، وإحباط متزايد، وعبء بشري سيتنامى بما يتناسب وتنامي الأدوات والبرامج التي تحيط بنا؟ ..)، ويضيف على سؤاله قائلا بأن (حالنا يمكن أن يكون أفضل باستخدام تقانة المعلومات. ولكن هذا لن يكون بالطريقة التي نسير عليها. وما لم تكن لدينا مقاربة للحوسبة جديدة على نحو أساسي. سيسوء الارتباك، وستظل ثورة المعلومات ثورة غير مهنية). طموحات الكاتب واسعة ونظرته إلى المستقبل عميقة، حيث يطرح تساؤلا مهما يلخص فيه غايته من تأليف كتابه (ما دامت رقاقات الاستشعار أو الاستجابة المزروعة لها كل هذه البراعة، لماذا لا نضع رقاقات في الدماغ لتصل إلى أداء أعمال فذة أكثر روعة؟ يمكنك هكذا في كل ليلة أثناء نومك أن تفرغ في ذاكرتك البشرية أجزاء كاملة من الموسوعة البريطانية أو يكون في وسعك أن توصل رقاقة دماغك برقاقة دماغي بحيث نستطيع أن نتواصل فيما بيننا بأفكارنا بطريقة مباشرة سريعة). وقد شبه الكاتب أجهزة الحواسيب بمختلف أنواعها وأغراضها وأشكالها بـ (حيوانات عجيبة)، يحتفظ بها في منزله، حيث ينفق الساعات في تغذيتها وعلاجها والفصل بينها عند اقتتالها، وهي (فحسب تنخر أو تحدق بي بغباء. وعندما يحدث أي تفاهم بالفعل، وأحس بود نحوها، فإنها لا تلبث أن تلتفت فجأة لتقضم قطعة من جلدي)، كمقاربة دقيقة مع الحواسيب الشخصية، والوسائل المساعدة (التي نحملها في اليد، والطابعات والتلفونات، ومشغلات الموسيقى) وغيرها من (العجائب الرقمية)، التي (تتكاثر بسرعة، إلا أنها بدلا من أن تخدمنا، فإننا نحن الذين نخدمها)، حيث ننتظرها لتصبح جاهزة للعمل، ونحتاج لأن نفهمها فهما جيدا يحيط بمزاياها ويؤهلنا لتشغيلها، وتتطلب هي في المقابل قطع غيار وأموال لصيانتها باستمرار، ونواصل تحديثها أو تغييرها بأخرى جديدة وإلا أصبحنا متخلفين وغير قادرين على التواصل مع الآخرين والاستجابة لـ (ثورة لم تنته)، ولا تلوح في الأفق بأنها على وشك أن تقف في نهاية طريق. فإلى متى سنظل نلاحق ونخدم مخرجات هذه الثورة التي باتت تشغلنا وتستهلك وقتنا وجهدنا ومالنا؟. (ينبغي ألا نضطر إلى ذلك)، فقد (حان الوقت لأن ننهض مطالبين بحزم: ((اجعلوا استخدام حواسيبنا أكثر بساطة))، اجعلوها تتحدث إلينا، وتؤدي الأشياء لنا، وتحصل على المعلومات التي نريدها)، لتبلغ هذه الثورة أوج تقدمها، لنصل إلى الاستقرار بتحقيق تطلعات واحتياجات وخدمات الإنسان مرة واحدة، بدلا من انهيار الحاسوب وتوقفه عن العمل عندما نكون نعمل (بنحو طيب ثم يحدث شيء غير مؤات في أحشاء الجهاز بسبب انهياره)، فيما (تزعم الآلة أنها ذكية في حين أنها ليست كذلك وهكذا فإنها تعوقك بدلا من أن تساعدك، ثم هناك ((خطأ الانتظار)) حين نطلب من الآلة أن تتحول إلى التشغيل أو التوقف، وننتظر دقائق لا تطاق إلى أن تتنازل فتفعل ذلك). قد تكون المعلومات والملاحظات والأمثلة التي يعرضها الكاتب قديمة، وحدثت طفرات متواصلة في عالم الحواسيب ضمن الثورة التي يتحدث عنها، ولكن الكثير من المشاكل والثغرات والمعيقات ما تزال ماثلة في المشهد، وعلى سبيل المثال فإن بعض البرامج والأجهزة تزعم أنها تساعدك ولكن تكتشف بأنها تعطلك، أحدها في هاتفي يصوب لي الكلمات التي أطبعها رغما عني بزعم أنه يصححها لي، فاكتشف أنه هو الذي أخطأ وليس أنا فالمعلومات التي لقمت إياه مليئة بالأخطاء، وحتى مهمة حجز الفنادق وتذاكر الطيران والحصول على معلومة ما تستهلك الكثير من الوقت والجهد في عمليات بحث متواصلة تستغرق ساعات أو أياما لنحيط بالمعلومات الخاصة بالأسعار والتقييم والوجهات والمقاعد والغرف الشاغرة ومقارنتها بأخرى وبلوغ المعلومة المطلوبة بين كم هائل من البيانات، إذ ينبغي (أن تؤدي تقانة المعلومات إلى مساعدة الناس على أداء ما هو أكثر بفعل ما هو أقل)، وهذا لا ينفي بالطبع وكما استخلصه الكاتب من تجاربه بأن الحواسيب (قد ساعدتنا في أداء أمور مذهلة ما كنا نستطيع قط أداءها من دونها)، ولكنها في المقابل (زادت من الإدمان أكثر مما زادت من الإنتاجية)، وهذا هو فعلا ما تؤكده المشاهد في بلداننا العربية، حيث يدمن الناس على الحواسيب وبالأخص أجهزة النقال لساعات طويلة من أجل اللعب والتسلية والدردشة والتفاخر، هذا فضلا عما تستنزفه من أموال كبيرة لملاحقة واقتناء الأجهزة الحديثة والتخلص من القديمة. لا شك بأن الكاتب وأقرانه قد ساهموا في تطوير وتجويد وتحسين خدمات الحواسيب وسوف يواصلون النقاش والتفكير وتبادل المعلومات لمزيد من العصف الذهني والتأليف وسوف تظل الثورة تضيف كل يوم تقدما جديدا إلى انجازاتها السابقة، فأين اسهاماتنا نحن العرب في هذه الثورة التي (لم تنته)؟

التعليقات معطلة.