جدل العفو العام في العراق وردّ الاعتبار إلى الأبرياء

2

فاروق يوسف

فاروق يوسف

ماذا وراء جدران السجون العراقية؟

يخشى كثيرون في العراق من أي محاولة لتفكيك المرحلة التي حكم فيها نوري المالكي بين عامي 2006 و2014، والتي ما كان لها أن تنتهي لولا وقوع كارثة هزيمة القوات المسلحة المزودة بأحدث الأسلحة الأميركية أمام مئات من مقاتلي التنظيم الإرهابي “داعش” الذين غزوا الأراضي العراقية بسيارات مدنية مزودين بأسلحة شخصية خفيفة. كانت تلك الهزيمة خلاصة لعهد تميز بالفساد، إذا لم نقل إنه العهد الذي ترسخ  فيه الفساد وصارت له دولته العميقة التي لا تزال قائمة حتى الآن وتدافع عن وجودها بقوة المنتفعين منها، وجلهم من أتباع المالكي الحزبيين أو المستفيدين من القوانين العجائبية التي سنّها من أجل أن يذهب جزء كبير من وارادات العراق المالية إلى فئات غير عاملة من الشعب العراقي، مثل “مجاهدي” حزب الدعوة والسجناء السياسيين والهاربين إلى رفحاء السعودية بعد فوضى عام 1991 والمهجرين الإيرانيين. تنظر تلك الفئات إلى المالكي باعتباره ولي نعمتها، رغم أن العدد الأعظم من أفرادها لا يقيم في العراق. في المقابل، شهد عهد المالكي صعوداً للطائفية كان “قانون 4 إرهاب” واحداً من أكثر مؤشراتها عنفاً. سمح ذلك القانون باعتقال الآلاف من شباب المنطقة الغربية ونسائها من غير الحاجة إلى أدلة جنائية، وكان المخبر السري عنواناً للوشاية. يومها زُج بآلاف العراقيين بناءً على اعترافات انتُزعت منهم تحت التعذيب ومحاكمات غير أصولية، أو بسبب التهم الكيدية من قبل مَن يعملون مخبرين سريين. 
إرهابيّات وإرهابيّون من غير سلاحفشلت كل محاولات الحوار الوطني في الوصول إلى هدفها الذي تم تزوير عنوانه باسم “المصالحة الوطنية”، وهو في حقيقته مسعى لتطبيع الأوضاع الشاذة التي نتجت من سياسات نوري المالكي الطائفية، وبخاصة في ما يتعلق بالمعتقلين والمعتقلات بتهمة الإرهاب. وإذا ما كان ممثلو الطائفة السنية في تلك المفاوضات، وهم غالباً ما كانوا موالين للمالكي، قد طرحوا مشروع قانون العفو العام، فقد كان ذلك المشروع قائماً على افتراض لا يمكن تحقيقه حيث تتم المساواة بين المجرمين والأبرياء. وهو ما سهّل على المعترضين على القانون أن يفرغوه من محتواه الحقيقي حين أُقرّ عام 2016. كانت عقدة المخبر السري، ولا تزال، تشكل عقبة دون لمس الأرضية التي يجب أن تُجرى عليها عمليات إنقاذ عشرات الآلاف من السجناء الذين وقعوا في مصائد الميليشيات من غير أن يكونوا قد ارتكبوا ذنباً سوى أنهم اعترضوا على سياسات نوري المالكي الطائفية. وكانت مهمة المخبر السري تقوم في الأساس على قياس درجة غضب الناس من تلك السياسات ومدى استعدادهم للثورة عليها. ولأن الإرهاب مفهوم سائب لا تعربف محدداً له في العراق، فقد تُرك الأمر للمخبر السري لكي يحدد مَن هو إرهابي ومَن هو ليس كذلك. وإلا فليس من المعقول أن تكون مئات النساء العراقيات إرهابيات في مجتمع محافظ، وليس من المعقول أيضاً أن يتحول عشرات آلاف الشباب العراقيين إلى إرهابيين وهم لم يغادروا مدنهم ولم يحملوا السلاح. أزمة إنسانيّة تحت القشرة السياسيّةلا يزال جزء من العراق “البشري” معتقلاً داخل سجون تُمارس فيها شتى أنواع الإذلال والتعذيب. هناك خشية من إطلاق سراحه لئلا تُفتضح عمليات التعذيب وانتزاع الاعترافات بطريقة قسرية. الأهم أن لا تتم إعادة النظر في المرحلة التي حكم فيها نوري المالكي العراق مدفوعاً بنزعة طائفية أدت إلى وقوع كارثة الموصل. غير أن طي تلك الصفحة يصطدم بحيوات عشرات الآلاف من المعتقلين الذين باتت تضيق بهم السجون بحسب تقارير وزارة العدل. وتحت غطاء تلك المعادلة القلقة تكمن أزمة إنسانية ستظل عائقاً يحول دون قيام مصالحة اجتماعية حقيقية. هناك مقاومة قوية من أحزاب السلطة لفكرة إعادة فتح ملفات المعتقلين الذين تؤكد وقائع اعتقالهم أنهم أبرياء. فهم لم يرتكبوا أي جرم له علاقة بالإرهاب. وفي المقابل، فإن السؤال الشعبي عن مصير الآلاف من المعتقلين ظلماً هو أشبه باللغم الذي يمكن أن ينفجر في أي لحظة، ما يهدد بنسف كل الإنجازات التي تحققت على مستوى تحسين الوضع الأمني في مناطق تعرضت لدمار شامل، ساهمت فيه القوات الأميركية والتنظيمات الإرهابية وميليشيات الحشد الشعبي التي لا تزال ممسكة بالأرض في بعض المدن، مانعة سكانها من العودة إلى بيوتهم واستئناف حياتهم الطبيعية. 
فتح ملف الظّلم تفادياً لكراهيّة تاريخيّة لم تنفع كل محاولات الهروب إلى الأمام في مواجهة أزمة إنسانية لا يمكن أن تُحل من غير معالجات جذرية، يكمن جزء منها في ضرورة رد الاعتبار لآلاف البشر استُلبت حريتهم واغتُصبت كرامتهم ومُحقت إنسانيتهم، لا لشيء إلا لأنهم وقعوا في ساحة صراع لم يكن لهم فيه يد أو لأنهم لم يرضوا بإجراءات العزل التي فرضتها حكومة نوري المالكي لأسباب طائفية. لذلك فإن تطوير قانون العفو العام لن يكون مجدياً ما لم يتضمن فقرات تتعلق بتعويض مَن تثبت براءته من أجل طي صفحة الظلم الذي تعرض له، وهي أيضاً رسالة لطمأنة المجتمع حثاً لروح المشاركة المبنية على تبادل الثقة. فليس صحيحاً أن يتم الجمع ما بين مطالب المواطنة التي سبق أن رُفعت في المدن التي تعرضت للحيف الطائفي، ومواقف سياسية تتحرك بين الاعتدال والتطرف تبعاً لردود الأفعال. وليس صحيحاً أن تستمر محاولات الهرب إلى الأمام فيما تظل الأزمة الإنسانية في مكانها لتكون مجالاً حيوياً لكراهية تاريخية لن ينجو العراق من تداعياتها في المستقبل.  

التعليقات معطلة.