المصدر: النهار العربي
فارس خشان
كلّ شيء في لبنان يُقنعك بأنّك تحمّل الأمور أكثر ممّا تحتمل، فالناس في وادٍ و”التنظيرات” في وادٍ آخر! نبدأ من الانهيار المالي والاقتصادي، إذ اعتبر كثيرون أنّ هذا الحدث سوف يزلزل الأرض تحت أقدام الطبقات السياسيّة والاقتصادية والمالية التي طالما تآزرت وتضامنت، ولكن سرعان ما تكتشف، في مفاصل مهمة من العام 2023، أنّ الغالبيّة العظمى من الشعب قلبت الصفحة وتعايشت، بشكل مذهل، مع الواقع الجديد، فعاد المصرفيّون، مثلًا، الى احتلال مواقع متقدمة في المجتمع، وبدا أنّهم لم يتأثروا، أبدًا، بالانهيار، لا بل تذهب بعض المؤشرات إلى إقناعك بأنّهم استفادوا منه واستغلوا، بما يملكونه من معرفة وسلطة، من كل التدابير والتسهيلات التي اتخذتها السلطات السياسية والمالية. واعتبر كثيرون أنّ لبنان ما بعد انفجار مرفأ بيروت يستحيل أن يعود الى ما كان قبله، فاكتشفوا أنّهم ارتكبوا خطأ جسيمًا، إذ سرعان ما تأقلمت الأكثرية الساحقة مع هذا الحدث الخطير، غير آبهين بتهديم ما كان قد بقي قائمًا في الجسم القضائي، فانعزل الضحايا والأبطال، وافترش الواجهة المتواطئون والملاحقون والمدعى عليهم. وسجلت المناطق التي تضررت من هذا الإنفجار، في العام 2023، أكثر الحفلات صخبًا وضحكًا واستقطابًا. وتكررت، بذلك الحالة نفسها التي حصلت، بعد ثورة السابع عشر من تشرين الأوّل(أكتوبر) 2019، بحيث عاد “كلهم يعني كلهم” الى “مجدهم” السابق، فعاثوا بالدولة تخريبًا، فأبقوا رئاسة الجمهورية شاغرة وسلّموا البلاد الى حكومة تصريف أعمال وتصارعوا في ما بينهم على المناصب والمكاسب والحصص. وتطلّع كثيرون الى أنّ إقحام “حزب الله” للبلاد في حرب حدوديّة مع إسرائيل، تضامنًا مع قطاع غزة، سوف يرفع الى رأس جدول الأعمال الوطني موضوع سيادة الدولة، لكن ظهر أنّ كل هذه التطلّعات مجرد “أوهام”، بحيث فرض “حزب الله” جدول أعماله على الجميع، وبات أقوى تصريح ضدّه يُصاغ بأدبيات “التمنّي والرجاء والنصيحة”، فيما ذهب من يعتبرون أنفسهم محايدين إلى مستوى الإشادة بحكمة “حزب الله” وقيادته وحرصه على البلاد والعباد! وانتظر كثير من اللبنانيّين كلمة ينطق بها الأمين العام لهذا الحزب السيّد حسن نصرالله، ليرتبوا في ضوئها شؤونهم، وبمجرد أن فهموا منه أنّه لن يُقدم على توسيع المواجهة نحو حرب تشمل كل لبنان، حتى أعادوا جدول أعمالهم الى وضعيته الطبيعية، فنطموا سفرياتهم من لبنان وإليه، ورتبوا حفلاتهم الاجتماعيّة، وخططوا لاستثماراتهم السياحيّة، وتخيّلوا هطول الدولارات عليهم التي يمكن، ببضع منها، تجاوز الرسوم والضرائب المرهقة. وعلى الرغم من كثرة الشكاوى والصرخات التي تجدها في وسائل الإعلام، فإنّك تكتشف أنّ الصيدليات ممتلئة ب”الأدوية الترفيهيّة”. صحيح أنّ بعضها ظهر “مزوّرًا”، ولكن الصحيح أكثر أنّ كثيرين يواجهون هذه الوقائع باستخفاف، مستعملين لغة السوق: “مشينا. بتصير وين ما كان. إنتو بتعملو من الحبة قبة”. وويحك إن تحدثت عن التلوّث وضحاياه وعن السير وقتلاه وعن الغذاء وجودته وعن الأمن وفلتانه وعن الإدارة وفسادها، إذ تتعرّض لغارات عنيفة من أقوال مثل:” حلّوا عنّا. هيدا أحسن بلد بالعالم. العمى شو مزنطرين”! البعض قد يعتقد بأنّني أتوسل هذه الأمثلة القليلة لأوجه انتقادات إلى غالبية الشعب اللبناني. في الواقع، لستُ في هذا الوارد، إنّما استعرض بعض الحالات للتأمّل بها، مع انتهاء عام آخر من أعوام الأزمة الحادة، من دون “فلسفتها”، لأنّها تُظهر حقيقة واحدة أنّنا، في بلد مثل لبنان، نحمّل الأمور أكثر ممّا تحتمل، وفي بعض الأحيان “نلبنن” قواعد العمل المتبعة في العالم ونحاول أن ننير بها النقاط المظلمة في استشراف المستقبل اللبناني. ويبدو أنّ هذا بالتحديد ما يفوت “عناد” الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي لم يستطع أن يحدث خرقًا سياسيًّا واحدًا، على الرغم من التغييرات التي أحدثها بالفريق المهتم بالملف اللبناني، إذ نقلها من “الناشط” باتريك دوريل إلى “الإحتياطي” جان ايف لودريان. في واقع الحال، كما قال لي متخصص في علم الاجتماع: “اللبنانيّون اعتادوا أن يعيشوا على أساس “كل يوم بيومه”، وهذا ما يُسقط كل التحليلات التي تحاول أن تتنبّأ بسلوكهم المستقبلي وحقيقة تعاملهم مع القيم والمبادئ والشعارات، فلديهم، بفعل الإعتياد على تفعيل “غريزة البقاء”، لكل مقام مقال، ولكل حادث حديث، و…معليش! وعليه، ليس من قبيل الصدف أن يكون أكثر الأقوال تردادًا في لبنان: “حاج حامل السلّم بالعرض”.