أن ترسو قناعة مجلة التايم الأميركية على اختيار الفتاة السويدية جريتا تونبرج شخصية لعام 2019، فللاختيار مسوغاته بل وضرورته اللازمة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن هذه الفتاة ذات الستة عشر ربيعا قد استطاعت أن ترسم حافزا عالميا متواصلا لمواجهة ظواهر التلوث البيئي.
لقد استعصت تونبرج على الموقف الدولي فاضطره دخولها عليه أن يصغي لها ولو على مضض لمواظبتها في إثراء موقفها الأخلاقي بالمزيد من الصبر، منذ أن بدأت الاعتصام أمام برلمان بلادها في العاصمة ستوكهولم بصحبة دراجتها الهوائية البريئة كل البراءة من أي تلوث، مع لافتة من الورق المقوى تجدد عليها نداءات بالتحذير من الكارثة التي تحيق بالأرض.
ما يحسب لمثابرة جريتا تونبرج أنها تمتلك رصيدا من المعارف عن حجم الانهيار في الطبيعة وانحدارها السريع نحو الإفلاس، رغم أن بلادها السويد من أكثر البلدان الملتزمة بمعايير الحفاظ على استخدام الإجراء الواعي في الكف عن الإسراف الذي يؤدي إلى تراكم التلوث.
وما يحسب لها أيضا أنها لم تستسلم للأمراض التي ترافق جسدها وذهنها رغم أنها تعاني من متلازمة اسبرجر، وهي حالة من مرض التوحد الخفيف، يعود اكتشافه إلى الطبيب النمساوي اسبرجر عام 1945، كما تعاني أيضا من متلازمة الوسواس القهري، إضافة إلى مشكلة جينية.
الخلاصة الدقيقة لأفكار تونبرج أربعة: إن العالم يعاني من مخاطر بيئية جدية تهدد وجوده، وإن الجيل الحالي من الكبار يتحمل الوزر الأكبر من التلوث، وإن المخاطر التي تتهدد الشباب نتيجة ذلك هي الأشد، وإن المسؤولين عن إدارة الحياة الآن لا يعملون بمثابرة على مواجهة الكارثة.
جريتا تونبرج ملترمة غاية الالتزام في حياتها اليومية بحماية البيئة، فهي لا تشعل نارا إلا عند الضرورة القصوى، وتسعى باستمرار أن لا تخلف نفايات تلوث المحيط الاجتماعي الذي تعيش فيه، وملتزمة إلى حد بعيد بالترشيد الاستهلاكي، ويبدو أن هذا هو منهج أمها المغنية، وأبوها الممثل المسرحي، وكذلك سلوك شقيقتها.
لقد حاضرت تونبرج بكفاءة محامٍ متمرس عارضة القضية في لندن، وكذلك أمام مؤتمر للأمم المتحدة عن الموضوع نفسه، وأمام منتدى دافوس، وواظبت على إصدار إشعارات عبر الإنترنت إلى الشباب في العالم للانضمام إلى فكرة ميدانية واقعية في التصدي للتلوث حماية لمستقبلهم.
لم تستفزها سخرية الرئيس الأميركي ترامب منها، ولم تتقاعس أمام أية فكرة تعينها على تحقيق أهدافها، ولي أن أسأل هنا: أين الشباب والفتيات في بلداننا من نباهة تونبرج؟
على مقدار ما أرى وأحصي في بلادي العراق أن المسؤولية البيئية لدينا لم تغادر هزالتها، فما زال الاحتفاظ بالنفايات أمام الأعين زينة يومية! وما زال إشعال إطارات السيارات ملهاة في الاستئناس وفي الاحتجاجات! وما زالت هناك مثابرة على إطلاق الرصاص الحي في الأفراح والأحزان، وفي الرد على الخصوم وإحراق حقول القمح نكاية بالفلاحين، بل وإفقار العراق من نخيله بعد كان يملك أكثر من ثلاثين مليون نخلة مثمرة عندما كانت نفوس البلاد سبعة ملايين نسمة؛ أي أن الفرد العراقي الواحد مقابل أكثر من أربع نخلات، وكان لدى أمي بستان صغير ورثته من أمها وقد احتال عليها أقاربها وتقاسموه زورا، كما يتقاسم سياسيون فاسدون الآن ممتلكات عراقيين بغير وجه حق، وإلى أن غادرت أمي الدنيا وهي تتحسر على فقدانه، إلا أني كنت أواظب على التخفيف من حسرتها بالقول إن العراق فَقَدَ أكثر من عشرة ملايين نخلة احترقت أو (قُلعت)، بل إن بساتين عامرة أزيلت من الأرض في أكبر كارثة بيئية تعرض لها العراق خلال حروب جرت على أرضه منذ عام 1980 وإلى منتصف عام 2003.
لقد كانت بساتين النخيل العراقية هدفا محببا لطائرات أف 16 الأميركية وزميلاتها طائرات الشبح وصواريخ كروز، وتشهد على ذلك الندوات البكائية التي عقدها مركز بحوث النخيل التابع لجامعة البصرة بشأن أصناف التمور العراقية النادرة التي انقرضت، إلى جانب ذلك، لم يغادر معلمون ومدرسون وأكاديمون عراقيون قيمة الصفر في تنبيه النشء الجديد إلى أهمية الإصحاح البيئي ودرء خطر التلوث.
في بلادي العراق ما زالت تتصدر براءات اختراع، في التسقيط السياسي، والولائم والشتائم والنخاسة الاجتماعية، وقلع الأشجار، رغم أن امبراطورا عراقيا باهرا اسمه حمورابي فرض عقوبة صارمة على من يقطع غصنا مثمرا قبل أكثر من ألفي عام مضت.
على أي حال، لقد دعتنا جريتا تونبرج إلى حراسة بلداننا من التلوث أسوة ببلدان أخرى، وإذا كنا غير قادرين على إنتاج قوانين الملك حمورابي وإعادة تطبيقها؟ فلماذا لا نتعلم من جريتا، مع يقيني أن خط الشروع لهذه المهمة لا تحتاج إلى زيادة مرتبات، ولا إلى توفير فرص عمل، ولا إلى إسقاط الحكومة، ولا إلى حل البرلمان، ولا إلى إجراء انتخابات مبكرة، بل ولا إلى إشعال حرائق أخرى؟
جريتا تونبرج وبستان أمي
التعليقات معطلة.