حبر على جمر .. الكلمات التي لا تُستعمر

2

لما صبحي عواد

في زحمة الحديث عن الأرض والحدود والسياسة، ننسى أحياناً أن الهوية لا تُحفظ فقط في الوثائق الرسمية أو الخرائط، بل في شيء أكثر حميمية وعمقاً: اللغة التي نتكلمها كل يوم، الكلمات التي نتوارثها جيلاً بعد جيل، الأمثال التي نرددها دون تفكير، واللهجة التي تفضحنا حين نتكلم.

حين تقول الجدة الفلسطينية “يا خسارة”، فهي لا تنطق مجرد عبارة أسف. إنها تحمل في نبرتها كل ثقل التاريخ، كل الفقدان المتراكم، كل الحسرة على ما كان وما لم يعد. وحين يقول الفلاح “الأرض بتعرف صاحبها”، فهو لا يتحدث عن زراعة فقط، بل عن فلسفة كاملة في الانتماء والجذور، عن علاقة روحية بالتراب لا يمكن لوثيقة ملكية أن تختزلها.

اللغة اليومية، بكل عفويتها وبساطتها، هي أرشيف حي للذاكرة الجماعية.

في كل مثل شعبي قصة.

في كل كلمة محلية تاريخ.

حين نقول “ع رأسي”، نحمل كرم الضيافة الذي يميزنا. وحين نقول “إن شاء الله بكرة”، نحمل صبرنا وأملنا الذي لا ينضب.

هذه ليست مجرد عبارات، بل هي هويتنا مكثفة في جمل.

ما يثير الدهشة أن اللهجات الفلسطينية، رغم عقود من محاولات المحو والتشتت، لا تزال حية، نابضة، تقاوم. الشاب الفلسطيني في المهجر، الذي ولد ونشأ بعيداً، حين يعود لزيارة قصيرة، تسمع في لسانه كلمات جدته. كأن اللغة تنتقل في الدم، في الجينات، لا في الجغرافيا فقط.

في القدس، لا يزال الناس يقولون “حارة” و”درج” و”عقبة”، مصطلحات معمارية تحمل ذاكرة المدينة القديمة. في الخليل، تسمع “يا زلمة” بنبرة خاصة لا تُخطئها الأذن. في غزة، للبحر مفردات خاصة، للشمس كلمات مختلفة. كل منطقة تحمل في لهجتها بصمة المكان، خريطة صوتية للهوية.

لكن الأمر يتجاوز اللهجات. إنه في طريقة استخدامنا للغة، في بلاغتنا الشعبية. الفلسطيني يتقن فن المجاز، يحول الكلام العادي إلى شعر بسيط وعميق. “الغربة سوادها في قلوبنا”، “اللي ما إلو أول ما إلو تالي”، “على قد لحافك مد رجليك” – جمل تختزل حكمة الأجيال، فلسفة حياة كاملة في عبارة واحدة.

وهناك الكلمات التي تختفي ببطء، تلك التي لم تعد الأجيال الجديدة تستخدمها. “الطابون”، “الجرة”، “الشِّيد”، “القُفة”. مصطلحات كانت جزءاً من الحياة اليومية، الآن تُحفظ في ذاكرة الكبار فقط. كل كلمة تموت، يموت معها جزء من عالم كامل كان موجوداً.

لذلك، حين تسمع شاباً فلسطينياً يستخدم كلمة قديمة، أو يردد مثلاً شعبياً، فهو لا يتحدث فقط. إنه يحفظ، ينقل، يقاوم بطريقته الخاصة. اللغة هنا ليست أداة تواصل فحسب، بل فعل انتماء، إثبات وجود، رفض للمحو.

في عصر العولمة، حيث تتشابه اللغات وتذوب الفروقات، يصبح التمسك باللهجة المحلية، بالمفردات الخاصة، بالأمثال الموروثة، شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية. إنها طريقتنا في القول: نحن هنا، لنا صوتنا الخاص، لنا كلماتنا التي تحمل تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا.

الهوية لا تُحفظ في المتاحف فقط، ولا في الكتب الرسمية. إنها تُحفظ في “صباح الخير” التي نقولها بطريقتنا، في “كيف الحال” التي تحمل اهتماماً حقيقياً، في “تفضل” التي تعني أكثر من مجرد دعوة. تُحفظ في كل محادثة عادية، في كل مكالمة هاتفية، في كل حكاية تُروى للأطفال قبل النوم.

فلنحتفِ بلغتنا اليومية، بكلماتنا البسيطة، بأمثالنا القديمة. لنعلّم أطفالنا ليس فقط اللغة العربية الفصحى، بل أيضاً لهجتهم المحلية، مفرداتهم الخاصة، أمثال أجدادهم. لأن في كل كلمة نحفظها، نحفظ جزءاً من أنفسنا لا يمكن أن يُستعمر.

التعليقات معطلة.