بشير عبد الفتاح
ربما لا يتسنى للحراكين الجماهيريين في السودان والجزائر، إقامة الدولة المدنية المنشودة، بغير إدارة حكيمة للمراحل الانتقالية، تتيح ترويضاً لقوى أساسية ثلاث، تحدد قسمات المشهد السياسي في البلدين عقب الإطاحة بالرئيسين عمر البشير وعبدالعزيز بوتفليقة. أول هذه القوى، قواعد وأركان النظامين اللذين اندلع ضدهما الحراك الجماهيري، والتي تتشبث بأي بصيص أمل في البقاء، أو الإفلات من المحاسبة على أقل تقدير. وثانيها، تنظيمات الإسلام السياسي المتربصة بكل انتفاضة شعبية متوخية الانقضاض عليها وتوظيفها لخدمة مطامعها في الانفراد بالحكم. أما ثالثها، فيتمثل في المؤسسة العسكرية، المهمومة بأداء واجبها الوطني خلال المرحلة الانتقالية كتأمين احتياجات الشعب المتجددة من مصادر طاقة وسلع أساسية، وحماية البلاد من أي استهداف خارجي، وتحصينها ضد الانزلاق في غياهب الفوضى والتمزق والاقتتال الداخلي، علاوة على تعزيز مركزية الدور الوطني لأركان المنظومة الأمنية، وما يستتبعه ذلك الدور من تسهيلات وامتيازات يحظى بها قادتها وأفرادها. في ما يتصل بقواعد الأنظمة المتهاوية، وانطلاقاً من مخاوفهما المتنامية من أن تستخدم تلك القواعد البيروقراطية المتغولة بغرض تأجيج ثورة مضادة تقوض عملية التغيير وتجهض مساعي إعادة توزيع القوة والثروة داخل المجتمع توطئة لإعادة إنتاج الأنظمة السابقة، يأبى الحراكان السوداني والجزائري إلا تفكيك أوصال تلك الأنظمة واقتلاع جذورها، وهو المطلب الذي يستعصي تحقيقه عملياً في ضوء خصوصية أنظمة الحكم العتيدة في بلداننا، والتي يتآكل فيها الفارق بين مكونات النظام الحاكم وأركان الدولة، إلى حد التماهي. الأمر الذي يحتاج إلى التثبت أولاً من مدى واقعية هكذا مسعى، وحدود جدواه، خصوصاً مع ارتفاع كلفته على الصعد الزمنية والاقتصادية والأمنية والسياسية، مع افتقاد الحراك الجماهيري القدرة على إنتاج نظام بديل، بمقدوره ملأ الفراغ السياسي والعبور بالبلاد والعباد إلى بر الأمان.
أما في ما يتعلق بتنظيمات الإسلام السياسي الانتهازية، فيبدي قادة الحراكين يقظة لافتة لها، كما أنهم لا يألون جهداً في تحري السبل الكفيلة بمنع تلك التنظيمات من السطو على انتفاضة الشعوب، واستغلال حالة الفراغ السياسي عبر استثمار قدراتها التنظيمية والمالية الفائقة وخبراتها السياسية العميقة لانتزاع السلطة والاستئثار بها، بما ينحرف بحراك الشارع عن مساره المدني الديموقراطي الوطني القويم. وحتى تؤمّن نفسها من المارد العسكري الذي آل على نفسه حماية انتفاضة الشعب ومساندتها لبلوغ مراميها، لم تتورع جماعات الإسلام السياسي عن تفزيع المتظاهرين من مغبة تدخل الجيوش في السياسة، ما تعتبره انقلاباً على الشرعية، ليس تمسكاً أو قناعة من أولئك المتأسلمين بمدنية الدولة، أو حرصاً منهم على نجاح ثورة الشعب، بقدر ما يهدف إلى إجهاض الجيوش لمخططاتها الرامية إلى الانقضاض على الثورات وانتفاضات الشعوب، بغية اقتناص الحكم عبر استغلال الدين، على نحو ما تجلى في إلحاح الإخواني عبدالله جاب الله، رئيس “حزب العدالة والتنمية” الجزائري، في المطالبة بضرورة استبعاد الجيش الجزائري من إدارة المرحلة الانتقالية.
وعلى رغم يقظة قادتها، لا يزال شبح الإسلاميين يطارد الموجة الثانية من الحراك الجماهيري العربي، إذ أحيت جنازة زعيم “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” الجزائرية عباسي مدني قبل أيام، الذكريات المريرة للعشرية السوداء، سواء لجهة محاولة استرجاع المسيرات الضخمة التي كانت تقودها الجبهة في شوارع العاصمة كل يوم جمعة، على رغم قرار السلطات دفنه في مقبرة سيدي محمد قرب مسكن عائلته، بدلا من مقبرة العالية القريبة من المطار، تفادياً لانطلاق مسيرة جنائزية بطول 12 كيلومتر، أم بخصوص إطلاق الشعارات التي دأبت الجبهة على ترديدها خلال تسعينات القرن الماضي، ومجاهرة المشيعين بهتافات من قبيل: “يا عباس ارتاح ارتاح سنواصل الكفاح”. وبينما اعتقلت الشرطة الرجل الثاني في “الجبهة الإسلامية” علي بلحاج ومنعته من حضور الجنازة، عادت للظهور خلالها بعض الوجوه القديمة لـ “الجبهة” أمثال علي جدي وكمال قمازي، الذين لم يتورعوا عن اعتلاء المنصة لإلقاء كلمات تأبينية وخطب مديح في عباسي مدني. وعلى رغم غيابهم الاضطراري اللافت عن منصات الحراك الذي يزلزل البلاد منذ أسابيع، لا تزال أحلام العودة إلى المشهد السياسي تراود قادة الإسلاميين الجزائريين، إذ لا يفتأ علي جدّي يردد: “سيعيدنا الشعب يوماً”.
في غضون ذلك، قررت لجنة أمن ولاية الخرطوم رفض طلب تيار “نصرة الشريعة الإسلامية” الحصول على تصريح للقيام بتظاهرة أو موكب مليوني يرمي إلى “الدفاع عن الشريعة الإسلامية من تغول العلمانيين ومحاولتهم الوصول لسدة الحكم”، في إشارة إلى قوى “الحرية والتغيير” التي تضم بين ثناياها بعض التيارات اليسارية. وبينما ربطت اللجنة رفضها تلك التظاهرة بدواعٍ أمنية في ضوء الظروف الحرجة التي تعصف بالبلاد هذه الأيام، يعي الجميع أن القرار المذكور يأتي في سياق حرص السلطات السودانية على تلبية مطالب قادة الحراك المدني، في ما يخص منع الإسلاميين من خطف الحراك أو السطو على السلطة مجدداً.
أما بخصوص المؤسسة العسكرية، وانطلاقاً من الحساسية المفرطة إزاء الدور السياسي لجيوش عربية عدة، استناداً إلى خبرات الماضي الأليمة، يأبى الحراكان السوداني والجزائري إلا استبعاد الجيوش من المعادلة السياسية في مرحلة ما بعد بوتفليقة والبشير. فبينما انبرى المتظاهرون الجزائريون في المطالبة بتنحي رئيس أركان الجيش الفريق قايد صالح، جراء موقفه المراوغ حيال إصرار الحراك الشعبي على إقالة “الباءات الثلاث” وتطبيق المادتين السابعة والثامنة من الدستور، واللتين تنصان على أن الشعب هو صاحب السيادة، ومصدر السلطة التأسيسية، رفض ممثلو انتفاضة السودان فض الاعتصام على رغم إبعاد ثلاثة جنرالات من المجلس العسكري الانتقالي، كانوا بمثابة أعمدة نظام البشير وحصان طروادة لإعادة إنتاجه، حتى يقوم المجلس برئاسة الفريق البرهان بتفكيك منظومة حكم البشير ومحاكمة الفاسدين من رموزها، وإلغاء المجلس العسكري الانتقالي الحالي واستبداله بمجلس سيادي مدني يتيح تمثيلاً للعسكريين. وبعدما أدركوا أن غياب البديل المدني المؤهل لقيادة البلاد عقب الإطاحة برؤوس النظام، كفيل بفتح الباب على مصراعيه أمام سطو الإسلاميين على الحراك أو تصدر العسكريين للمشهد، طرحت قوى “إعلان الحرية والتغيير” قائمة بأعضاء المجلس المقترح قبل بدء المشاورات مع المجلس العسكري لتحديد نسب تمثيل المدنيين والعسكريين فيه.
وبينما حظي مطلب الحراك الشعبي السوداني بدعم جهات دولية، كالاتحاد الأفريقي، الذي سارع إلى مناشدة المجلس العسكري الانتقالي تسليم السلطة للمدنيين خلال 15 يوماً، إلا أن تحقيقه يبقى محفوفاً بالمخاطر. إذ تفرض محورية دور الجيوش في إنجاح الحراك الشعبي، والتي تناولتها دراسات لمفكرين غربيين من أمثال كاثرين شورلي وديانا راسل ورايت ميلز وزولتان باراني، على قادة الحراكين الجزائري والسوداني، التعاطي مع المؤسسة العسكرية كشريك وليس كندّ. فبعدما رأى صموئيل هنتنغتون سلامة الديموقراطية وحرفية المؤسسة العسكرية في إبعاد الأخيرة عن الانخراط في السياسة، مع منحها استقلالية في إدارة شؤونها، على أن تبقى في نهاية المطاف تابعة للسلطة المدنية المنتخبة، أتى أوزان فارول منظراً لما أسماه “الانقلاب الديموقراطي”، الذي تستجيب من خلاله جيوش وطنية متماسكة لإرادة الشعب، فتزيح نظاماً استبدادياً، ثم ترتب لمرحلة انتقالية قصيرة، تتم بعدها انتخابات، على غرار ما جرى في البرتغال في عام 1974، وتركيا (عام 1980)، ومصر في العامين 2011 و2013.
كذلك، يتعين على الحراك الشعبي الحفاظ على تماسك أركان المنظومة الأمنية، بما يضمن استقرار البلاد خلال المرحلة الانتقالية الحساسة. إذ أفضى تمسك الحراكين الجزائري والسوداني بإبعاد الجيش عن المشهد السياسي واستئصال أركان ورموز النظام القديم كافة، إلى نزوع بعضهم لإفساد الأجواء. وفي السياق، أكد قائد أركان الجيش الجزائري سعي ما يسمى “الدولة العميقة”، ممثلة في رئيس جهاز المخابرات الأسبق الجنرال محمد مدين المعروف بـ”الجنرال توفيق”، لتأجيج الأوضاع من خلال الاتصال بجهات مشبوهة وبعض القيادات السياسية والحزبية المقربة من بوتفليقة، بغية التآمر على مطالب الشعب وعرقلة مساعي الجيش الوطني ومقترحاته لحل الأزمة، فيما أعلن رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان الفريق البرهان تورط قيادات أمنية سودانية فى أنشطة مشابهة.
وإذا كانت العظة التي جادت بها الموجة الأولى للحراك الشعبي العربي في عام 2011، تكمن في ضرورة وضع أطر واضحة وحاسمة ومتوافق عليها للعلاقات المدنية – العسكرية، علاوة على فض الاشتباك المصطنع والمغرض بين الدين والسياسة، فضلا عن العمل بغير كلل لإدراك النمو اقتصادي بموازاة السعي لإتمام التحول الديموقراطي، لاسيما أن إخفاق الأنظمة البائدة في مواجهة التحدي الاقتصادي، كان المحرك الرئيس لاندلاع الحراك الجماهيري بموجتيه ضدها، فإن الرسالة التي تبعث بها المراحل الانتقالية للموجة الثانية من الحراك العربي، تؤكد أن ضمانة الوصول إلى المبتغى، تتجلى في التئام الفاعلين الأساسيين على المسرح السياسي، من ممثلي الحراك الشعبي والسلطة العسكرية وقيادات التنظيمات الإسلامية ورموز النظام السابق ممن لم يتورطوا في أعمال فساد أو إراقة دماء، حول طاولة حوار شامل وبناء وصريح، توسلاً لابتكار آلية وطنية ناجزة، تقود سفينة المرحل الانتقالية بحكمة وتجرد، بما يجنب البلاد والعباد ويلات تلك المرحلة، ويرسو بهم في واحة الأمان، حيث الديموقراطية والتنمية والاستقرار.
* كاتب مصري.