بقلم: يحيى الكبيسي
هناك عبارة معروفة في الفقه الدستوري تقول «أن الدستور ليس عقد انتحار «، وهي تعني أن القيود الدستورية يجب أن تكون متوازنة مع الحاجة إلى الحفاظ على الدولة والشعب، ولكنها ايضا تعني ضمنا، أنه يجب منع السياسيين من تعطيل الدستور وأحكامه، أو تأويله تأويلا مفرطا وفقا لإرادتهم، بما يفرغه من محتواه! لأن هذا المسار سيكرس عقد الانتحار الجماعي !
كتبنا قبل اسبوعين مقالة عن الانتخابات البرلمانية العراقية وأوهام التأجيل، أوضحنا فيها أن الدستور العراقي قد حدد ولاية مجلس النواب بأربع سنوات تقويمية تبدأ من اول جلسة له، وأن الدستور لم يتطرق مطلقا إلى إمكانية تمديد هذه الولاية، وأن هذا الفراغ الدستوري سيعني بقاء مجلس الوزراء يمارس صلاحياته الكاملة، لا سيما ان الدستور العراقي أغفل الإشارة إلى توصيف الحكومة في هذه الحالة! وبالتالي لن تسمح القوى الشيعية بمثل هذا الامر فهي تخشى أن يستغل العبادي هذا التأجيل لمصلحته انتخابيا من خلال احتكاره للقرار السياسي بعيدا عن اي رقابة!
اليوم تحاول بعض القوى السياسية المؤيدة لفكرة تأجيل الانتخابات، تسويق فكرة أن الدستور العراقي، في تحديده لولاية مجلس النواب، لم يشر، نصا، إلى عدم جواز تمديد هذه الولاية، وبالتالي ليس ثمة مانع من تمديد عمل مجلس النواب القائم! وهم يتعكزون، في هذا التأويل المفرط، على حالة التمديد لمجلس النواب اللبناني بشكل خاص، دون الانتباه إلى ان الدستور اللبناني لم يشر مطلقا إلى مدة ولاية المجلس النيابي! ولكن كان ثمة عرف على تحديد ولاية المجلس بأربع سنوات، وقد أيد المجلس الدستوري اللبناني هذا الامر عندما قرر أن المادة 44 من هذا الدستور «يستفاد منها صراحة ان ولاية المجلس النيابي أربع سنوات»، لهذا قرر إبطال قانون تم إقراره في عام 2000 جعل ولاية مجلس النواب أربع سنوات وثمانية أشهر، لأنه أخل بالقاعدة الدستورية، مما اضطر مجلس النواب لتشريع القانون رقم 171 لسنة 2000 الذي حدد ولاية مجلس النواب بأربع سنوات!
ومع عدم وجود تحديد دستوري صريح ومباشر في الدستور اللبناني، فقد قرر المجلس الدستوري بالإجماع بعدم دستورية قانون تمديد ولاية مجلس النواب اللبناني! وقد استند المجلس الدستوري في قراره هذا إلى أن: دورية الانتخابات مبدأ دستوري لا يجوز المساس به، وأن هذا التمديد يخالف المادة الدستورية التي تحدد، ضمنا، ولاية مجلس النواب بأربع سنوات (القرار رقم 7/2014).
إن مراجعة سريعة للدساتير، على الأقل في الديمقراطيات العريقة، يكشف بوضوح انه ليس ثمة ما يتيح تمديد ولاية المجالس النيابية، لان هكذا مادة ستتناقض مع مبدأ حق الشعب في اختيار ممثليه بشكل دوري! وهذا يعني، أيضا، ان مبدا التمديد في الفقه الدستوري غير دستوري أصلا! لكن مراجعة دساتير المنطقة، أو ما تسمى بالديمقراطيات الناشئة، تكشف عن وجود بعض النصوص الدستورية التي تتيح مثل هذا التمديد بشروط محددة! فالدستور الكويتي يتيح تمديد ولاية المجلس المحددة بأربع سنوات إلا في حالة الحرب ويكون المد بقانون (المادة 83). والأمر نفسه نجده في الدستور السوري الذي لا يجيز تمديد ولاية مجلس النواب إلا في حالة الحرب (المادة 51). اما الدستور التونسي فانه يقرر انه في حالة تعذر اجراء الانتخابات بسبب خطر داهم فيمكن تمديد ولاية المجلس المقررة بخمس سنوات بقانون (المادة 56). والامر ذاته تقريبا نجده في الدستور الجزائري الذي يقرر أنه لا يمكن تمديد السلطة التشريعية/ البرلمان المتكون من غرفتين؛ المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة إلا في ظروف خطيرة جدا لا تسمح بإجراء انتخابات عادية، ويثبت البرلمان المنعقد بغرفتيه معا هذه الحالة بقرار، بناء على اقتراح رئيس الجمهورية واستشارة المجلس الدستوري (المادة 102). اما الدستور اليمني فانه يقرر أنه في حالة تعذر إجراء الانتخابات لظروف قاهرة يظل المجلس قائما ويباشر صلاحياته الدستورية حتى تزول هذه الظروف (المادة 65). وثمة دساتير اخرى تتيح تمديد عمل المجالس النيابية لمدة محددة، كما في حالة الدستور الأردني الذي يعطي للملك صلاحية تمديد عمل مجلس النواب بإرادة ملكية إلى مدة لا تقل عن سنة واحدة ولا تزيد عن سنتين (المادة 68/ 1).
وكما هو واضح فان تقرير إمكانية التمديد من عدمها، يجب ان يكون حاضرا في النص الدستوري نفسه، وبعكسه لا إمكانية دستورية للتأجيل. ولكن الأمر في العراق مختلف بطبيعة الحال! فالدستور العراقي مجرد نص يمكن للفاعل السياسي تأويله كما يشاء، وإن عجز عن ذلك فثمة محكمة اتحادية عليا، نجزم انها غير دستورية وغير شرعية، جاهزة لتقديم قرار حسب الطلب، مهما كان هذا القرار منتهكا للدستور ومخالفا له، ففي النهاية نحن في إطار تواطؤ جماعي ومنهجي يحكم الدولة العراقية على حساب الدستور والقانون ومنطق العقل!
في العام 2005 دخل العراق وسط نزاع مسلح حقيقي، وخرجت كثير من المناطق عن إطار سيطرة القوات الأمريكية المحتلة، وكانت القوات العراقية في طور التشكيل! ومع ذلك تحققت وقتها ثلاثة استحقاقات: انتخابات الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني/ يناير، والاستفتاء على الدستور العراقي في 15 تشرين الأول/ اكتوبر، والانتخابات البرلمانية في 15 كانون الاول/ ديسمبر. ولم تزد نسبة المشاركة في هذه الاستحقاقات الثلاثة في بعض المناطق عن 10٪ في أفضل الاحوال، لكن الرغبة الدولية والمحلية آنذاك عملت على تمرير نتائج هذه الاستحقاقات الثلاثة بوصفها أعراسا ديمقراطية! بل كانت الأمم المتحدة عبر بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق(يونامي) صاحبة الدور الأكبر في هذا التسويق، وذلك عبر قبولها بالأرقام التي أعلنتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، مع يقينها بانها أرقام مزيفة! ومثال ذلك تقرير صدر عن البعثة الدولية لانتخابات مجلس النواب 2005 بشأن نسبة مشاركة محافظة الأنبار في انتخابات كانون الأول/ يناير 2005 والذي يزعم انها بلغت 86.4٪ (585429 مصوتا من مجموع 677821 ناخبا مسجلا)، فيما بلغت نسبة المشاركة في صلاح الدين 98.4٪ (555755 مصوتا من مجموع 564607 ناخبا مسجلا)، أما في نينوى فبلغت نسبة المشاركة 70.2٪ (942514 مصوتا من مجموع 1343381 ناخبا مسجلا)! ولكن البعثة نفسها عادت في الانتخابات اللاحقة في آذار/ مارس 2010 لتتحدث عن مشاركة سنية واسعة في الانتخابات على الرغم من ان أرقام المشاركة المعلنة كانت دون أرقام عام 2005!!! فقد اعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ان نسبة المشاركة في الانبار كانت 61٪، وفي صلاح الدين 73٪، وفي نينوى 66٪! يومها تحدث الجميع، بمن فيهم الأمم المتحدة نفسها، عن المشاركة السنية الواسعة على عكس «المقاطعة» التي جرت في انتخابات العام 2005!
في النهاية فإن الامر لا يتعلق دائما بالدستور او بالقانون او بمشكلة التمثيل! بل بصفقات وحسابات يقوم بها السياسيون، يضعون الاعتبار فيها، أولا وآخرا، للربح وللخسارة الشخصية والحزبية!