مقالات

حتى لا ينفك الارتباط الحضاري

 
 
 
أعلنت مصر مؤخرا عن اكتشاف مقبرة كاهن التطهير من عصر الأسرة الخامسة الفرعونية، في منطقة سقارة الأثرية جنوب العاصمة المصرية القاهرة. وهي ـ بحسب بي بي سي ـ مقبرة “واح تي” كاهن التطهير في عهد الملك “نفر اير كا رع” من الأسرة الخامسة، وقد وجدت المقبرة في حالة جيدة وجدرانها زينت بنقوش ملونة غاية في الجمال تصور صاحب المقبرة وأمه وعائلته، بالإضافة إلى وجود العديد من النيشات (خزائن عرض) التي تحوى تماثيل كبيرة لصاحب المقبرة وعائلته، وضمت المقبرة أيضا توثيقا لمشاهد من حفلة موسيقية، وصناعة النبيذ، وصناعة الفخار، وتقديم القرابين، ومناظر إبحار المراكب، وصناعة الأثاث الجنائزي، وصيد الطيور، وصناعة التماثيل، بالإضافة إلى نصوص من السيرة الذاتية لصاحب المقبرة.
الخبر الذي أعلنت عنه وزارة الآثار المصرية يأخذنا لآلاف السنين قبل الوقت الحاضر إبان كان تعداد مصر الفرعونية 20 مليون نسمة، وهي ربع تعداد العالم في ذلك الوقت والذي كان يدخل في إطار الكثافة السكانية العالية ـ حسب توصيف لأحد الباحثين في الحضارة المصرية القديمة ـ لنتأمل كيفية الاستفادة من الزيادة السكانية لازدهار الحضارة الفرعونية في العمل على كافة المستويات بدءا من تطهير النفس من الذنوب والمعاصي، وتطهير المجتمع من شذوذ الأخلاقيات المنافية لطبائع مصر الفرعونية، وتطهير دوائر الحكم من المفسدين والمنتفعين والمتسلقين والمرتزقة، مرورا بالتخصص المهني في الأعمال الهندسية والعلمية والبحثية، وانشغال الفئات المجتمعية فيما يخصها، وانتهاء بعبقرية هذه الحضارة التي وفرت لها الصمود لآلاف السنين دون التوصل لفك طلاسمها مثل أسرار التحنيط وكيفية بناء الأهرامات، بخلاف الرسومات التي تدل على علوم الرياضة والطب والفلك إلى آخره من معجزات الحضارة الفرعونية.
المصريون القدماء برهنوا على قوة الذات، وعكس تقدمهم منح الدولة الفرعونية مساحات كبيرة للكفاءات الوطنية، ولضمان صلابة الدولة اهتم الحاكم وكهنته بتطهير المجتمع من الفساد وترك باب العودة مفتوحا لكل الخارجين شريطة المرور بمرحلة “التطهير”، لذا كان القدر الأعظم من الاهتمام هو بالكاهن وحياته وتوفير الأمن لأسرته وضمان الحياة الكريمة كي لا يحيد عن العبادة الدينية ولا ينحرف عن دوره السياسي المرسوم له وفق مصفوفة المحددات الدينية في الدولة.
حتما مصر الحالية توجد هوة بينها وبين مصر الفرعونية، ولكي لا ينفك الارتباط بينهما يجب الاستفادة من الاكتشافات الأثرية الحالية والمستقبلية من تركة المصريين القدماء في كيفية الإدارة والتخصص، أو بمعنى أصح لإعادة ربط الحضارات بكفاءة متوازنة، خصوصا وأن المصريين بعد الخامس والعشرين من يناير 2011 هيمنت عليهم طموحات وتطلعات كبيرة وضعت ريادة حضارة الأجداد سقفا لها، وهذا حلم مشروع لأجيال اكتفت فقط بالتباهي بتاريخ الأجداد وما يحويه من منجزات، فتطلعوا إلى نقلة اقتصادية تحسن مستويات المعيشة على المدى القريب، إلا أن هذه الطموحات اصطدمت بالعديد من العقبات المحلية المتمثلة في عدم التخلص بشكل نهائي من البيروقراطية والفساد، وعالميا بالركود العالمي الذي أثر على اجتذاب تدفقات كبيرة من رؤوس الأموال والاستثمار، مما أدى إلى تدهور الوضع وهبوط معدل النمو السنوي، خصوصا من عائدات السياحة وتحويلات العاملين في الخارج والتي بدأت مؤخرا في التعافي، وصاحب هذا التعافي نجاحات الاقتصاد العقاري والذي استثمر فيه بإنشاء مدن جديدة تستوعب أيديا عاملة كثيفة بصورة مباشرة وغير مباشرة تعمل بالمصانع التي تنتج مواد البناء والمشروعات الخدمية المرتبطة بها، وساعدت هذه المشاريع في جلب النقد الأجنبي، بينما يتوارى خلف تميزها ونجاحها وجود رقابة تمنع الفساد، وقوانين تكرس للتطهير وتحفز على الإبداع.
بلا شك، الإيمان بالتاريخ والمصير المشترك بين الحضارات يعد أحد أهم أسباب بقاء الإنسان وتنميته فكريا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وعلميا وبيئيا، والتاريخ المصري القديم المتمثل في حضارته الفرعونية يشهد على أن هذه البقعة من العالم شهدت أهم الحضارات التي عرفتها البشرية، لذا، فالرابط كبير بين الماضي والحاضر، وعلينا أن نتعلم كيف كان يتم اختيار الأصلح لوضعه في المكان الذي يبدع ويتطور فيه، وكذلك منزلة وموضع العلماء الذين يعملون للصالح العام، بدلا من أن تكون الغرابة هي التأمل في كيفية بناء الأهرامات كأكثر الشواهد الحضارية على تقدم الإنسان القديم، أو التحنيط كظاهرة علمية كيميائية فريدة، وحتى لا يصل الأمر إلى مرحلة “فك الارتباط”.
 
جودة مرسي