حسن فليح /محلل سياسي
تسجيلات سمير الچيمقچي كانت احد واهم التسجيلات بالعراق في سبعينات القرن الماضي وتقع بالعاصمة بغداد في شارع الرشيد ، قام صاحب تلك التسجيلات المرحوم سمير الچيمقچي ، بتسجيل وحضور اكبر الحفلات للمطربات والمطربين الكبار في مصر ولبنان وسوريا والكويت حينذاك بالاضافة للمطربين العراقيين في بغداد كانت تتميز تسجيلات الچيمقچي بنقاوة الصوت ودائما ماكانت تسجيلاته على كاسيتات من ماركات عالمية اغلبها يابانية وكذلك بالنسبة للاسطوانات من مناشئ معروفة ومشهورة ، ويتميز المرحوم سمير بدماثة خلقه وتعامله المميز مع الزبائن ، زرته ذات يوم وكان عمري حينها لم يتجاوز ال22 عاما ، وطلبت منه اغنية كل ده كان ليه للموسيقار محمد عبد الوهاب ، فسألني “الك لو منو الدزك ابني” فقلت له لي انا اعشق عبد الوهاب ومن محبيه واعشق تلك الاغنية بالذات بالاضافة الى الكثير من اغانيه ، عندما انتهيت من كلامي قام وصافحني بحرارة وقال الان انا سعيد جدا شاب بعمرك ويطلب مني كاسيت عبد الوهاب انا الان جدا فرحان وأجزم ان الذوق العراقي لازال بخير ولم يحسب فقط على الاجيال التي تكبرك بكثير ، تفضل ابني هاي النسخة الاصلية فيها اغنية كل ده كان ليه وبعض الاغاني لعبد الوهاب وعلى حسابي الخاص هدية مني ، ورفض رفض قاطع ان يأخذ مبلغ الكاسيت على الرغم من محاولاتي الكثيرة ! اذكر الكاسيت كان علامة سانيو ، وذات تسجيل صافي جدا من اروع ماكان في ذلك الزمان ، ومرت السنين بل والعقود وبعد الغزو الامريكي للعراق عام 2003 وعند انجلاء غبار المعارك وهدأت اصوات الطائرات والصواريخ التي كانت تنهال على العاصمة بغداد كالمطر ، ذهبت لكي اتفقد بغداد واراقب اثار الدمار وكيف اصبح حال الجسور الرابطة بين الكرخ والرصافة على نهر دجلة التي تدمرت وتقطعت وكيف اصبحت بنايات بغداد سوداء من اثر دخان المعارك والقصف الذي كان وحشيا وهذا اقل مايقال عنه ، ودخلت شارع الرشيد من جهة جسر الجمهورية الذي اطاله القصف والاستهداف ايظا واخذت اتمشى واتأمل في شارع الرشيد ، الذي كان يعج بالحياة والازدحام الشديد واليوم اصبح خاويا وبلا حياة كل الذين كانو يمشون في الشارع انفار قليلة ومتباعدة وأغلبهم من الشباب ولم تكن السيارات متوفرة بسبب عدم وجود الوقود ، واخيرا وصلت الى تسجيلات سمير الچيمقچي ، وشاهدت منظرا افزعني وابكاني وجدت المحل محروقاً ومسروقا والكاسيتات بالشارع منثورة والاسطوانات تملا الرصيف تحت اقدام المارة دون اكتراث من احد !!! حينها تيقنت ان لا احد بعد الان يعطيني اغنيتي المفضلة وحتما ساسمع اصوات وكليمات مختلفة غصبا عني، لاتغني للحب ولا للوطن بعد الان!! انها الثقافة الجديدة التي جاء بها الغزو وما تحمل من تدمير وثقافة من جاء مع المحتل ليدمر وطنه !! اصبحت ثقافتنا محصورة وضاق الخناق حولها ، ادركت كذلك في لحضتها حجم الكارثة التي حلت بالعراق وحجم التغيير الذي لم يكن يستهدف النظام الدكتاتوري فحسب بل كان يستهدف العراق كدولة ومنظومة قيمه واخلاقه ومنضومة قيمه الوطنية وتحضره ، ومنذُ 20 عاما على تلك الصورة البائسة التي شاهدتها والتي كانت دليلا واقعيا وبسيطا بالمقارنة بحجم التدمير والسرقة التي حصلت بالمتحف العراقي والمكتبة الوطنية ، ان ذلك المنظر الذي يكاد يكون لايذكر امام جملة مشاهد مأساوية طالت العراق ، ولكن ذلك المشهد يقراء من زاوية اخرى مختلفة تؤكد ان عراق الحضارة لم يعد بلدا متحضراً بعد الان ، وتجربة العشرين عاما دليلا حيا على ذلك ، وان الغزو الامريكي للعراق قضى على امل العراقيين بأقامة نظام عراقي عادل يحضى باحترام عالمي يعيد للعراق هويته الوطنية المفقودة ومكانته الدولية .