د. عبير عبد الرحمن ثابت
لا أحد بمقدوره أن يهون من قيمة ما حدث بالأمس؛ عندما استطاعت الدفاعات الجوية داخل الأراضى السورية أن تُسقط طائرة إف 16 الإسرائيلية الاستخدام والأمريكية الصنع، وهى طائرة من الجيل الرابع الأحدث، والذى يطلق عليها العاصفة نظراً لقدرتها على تظليل الدفاعات الجوية وقدرتها الفائقة على المناورة؛ بحيث يكون بمقدورها إصابة أهدافها بدقة وعن بعد؛ وهو ما حدث عندما استهدفت تلك الطائرة مواقع على بعد مئات الكيلومترات فى محافظة حمى السورية؛ وهى فوق مرج بن عامر شمال فلسطين المحتلة .
ومن الواضح أن إصابة الطائرة كانت مباشرة ودقيقة؛ نظراً لإصابة أحد طياريها إصابة خطيرة، وهو ما يعنى أن القذيفة أصابت الطائرة فى زمن قياسى لم يتسن لرادار الإف 16 وأنظمة كمبيوترها المعقدة أن يستشعرها ويتفادها أو حتى يظللها، وهنا تبرز حقيقة أخرى عن مدى تطور تلك المنظومة الصاروخية الدفاعية التى استطاعت كسر تفوق تكنولوجيا الجيل الرابع من الإف 16، ومن غيرالمنطقى أن تكون تلك المنظومة كما يروج فى وسائل الإعلام هى منظومة اس 200 السوفيتية، والتى تعد من النماذج القديمة للمضادات الأرضية ام ان هذا الترويج هو ضمن سياسة متعمدة يراد بها إيصال رسائل بعينها لمن يهمهم الأمر وهم كُثر، لكن وإن تعددت عناوين المرسل والمستقبل فمصدر الرسالة واحد وهو ببساطة الكرملين2018، والذى لا يشبه الكرملين خلال العقدين الماضيين قط .
أن الكرملين اليوم هو أحد المقرات الدولية الرئيسية التى تدير السياسة العالمية؛ ضمن استراتيجية إمبراطورية طويلة الذراع بحكمة وهدوء وإتزان يليق تماما بحجم ما تمثله من قوة قادرة على تحقيق أهدافها وتحديد مناطق نفوذها بشكل عملى على الأرض، وذلك لو كلف تغيير معادلات تاريخية راسخة كتلك التى كانت مفروضة فى الشرق الأوسط حتى يوم أمس، والتى مفادها أن سماء المنطقة هى حكر للطائرات الأمريكية الصنع التى تمتلك إسرائيل أحدثها، مما يعطيها التفوق والسيطرة المطلقة على سائر أجواء المنطقة.
لقد سقطت هذه المعادلة تماما بالأمس على يد الروس، والذين اضطروا على ما يبدو للرد على تجاوز خطير حدث خلال الأسابيع الماضية؛ عندما أسقطت لهم طائرة سوخوى، قد قيل فى حينه أن مضادات أرضية لقوى المعارضة السورية قد استهدفتها، ولكن الحقيقة أن المعارضة السورية لا تمتلك هذا النوع من الصواريخ، ولو كان الحال كذلك لما استطاعت قوات النظام وحلفائها من الروس والايرانيين استعادة القبضة على ما يقارب 80% من مساحة البلاد من قبضة المعارضة، ولكن الحادث فى حينه مثل تجاوزاً خطيراً واستهتارا متعمدا وإهانة من قبل الولايات المتحدة لروسيا الاتحادية، لكن الرد الروسى لم يتأخر كثيرا وما هى إلا أسابيع حتى جاء الرد صاعقا بالأمس وبطابع أكثر إهانة، عندما يعلن أن صاروخ سوفيتى من حقبة منظومة دفاع جوى من الجيل الأول لمنظومة S 200 وهى من ثمانينيات القرن الماضى، قد استطاع تدمير طائرة إف 16 من الجيل الرابع، وهو أحدث الإصدارات وباكورة التكنولوجية الغربية فى مجال الطائرات الهجومية، ولكن أخطر ما فى الأمر أن الرد الروسى قد كسر معادلة عسكرية دولية كبيرة، ألا وهى معادلة تفوق أنظمة التسلح الغربى والأمريكى، وهو ما سيكون له تداعيات كارثية على كبريات الشركات وصفقات التسلح الأمريكية المستقبلية، والتى تقدر بعشرات المليارات، إضافة إلى ذلك أن كسر معادلة التفوق لسلاح الطيران الإسرائيلى، هو ضربة إرتجاجية مزلزلة للإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية فى المنطقة، والتى بنى على أساسها معادلات الردع الاسرائيلى لخصومها فى الإقليم، والتى نسج على أساسها سياسة إسرائيل فى المنطقة، فتحييد سلاح الجو الاسرائيلى أو حتى خلخلة تفوقه، تعنى ببساطة فقدان إسرائيل لأهم أذرعها الطويلة والتى لولاها ما استطاعت الانتصار فى كل حروبها على مر تاريخها الدموى فى المنطقة. وإسرائيل اليوم أمام حقيقة مريرة ربما لم تستوعبها بعد لهول مرارتها وألمها، وهى أن الصاروخ السوفيتى كما يدعى لم يضرب الاف 16 صوفا بل ضرب فى مقتل معادلة التفوق العسكرى الاسرائيلى فى المنطقة، ورسم حدود عرين أسد جديد فى الجبهة الشمالية، ورغم الإدعاء بأنه أسد سورى أو حتى إيرانى، فإسرائيل تدرك جيدا أن الأسد هو روسى شرس سوف يدافع عن عرينه القديم المتجدد لأنه باق هاهنا إلى ما شاء الله، وعلى اسرائيل والولايات المتحدة أن تدرك تلك الحقيقة، وأن يترجم هذا الإدراك لمواقف سياسية على الأرض بأسرع وقت ممكن فى قضايا كالملف النووى، وحسم الأوضاع فى سوريا لصالح التوافق الدولى، بعيدا عن سياسة المماطلة والتربص والخداع التى تنتهجها إدارة ترامب، لأن الوقت لن يكون فى صالح أحد خاصة حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين لأنهم أول من سيدفع الفاتورة كاملة مجبرين لا مخيرين .