مع اقتراب عامين على بدء الحرب الإسرائيلية ضد شعب قطاع غزة، بدأت تظهر قناعات من خبراء ودارسي القانون الدولي ومن موظفي المنظمات الدولية، وعلى رأسهم مقررة الأمم المتحدة في غزة فرانشيسكا ألبانيز، بأن ما تفعله حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو من سياسات هي إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية.
الإبادة الجماعية في التعريف النظري لميثاق الأمم المتحدة هي النية للتدمير الكلي أو الجزئي لشعب معين.. وهذه النية موجودة في العديد من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين مثل وزير التراث الإسرائيلي، أميحاي إلياهو، في مايو(أيار) الماضي من خلال مطالبته بقصف مخازن الأغذية لتجويع أهل غزة لإجبارهم على الهجرة ومغادرة غزة.
أما الإبادة الجماعية من حيث الممارسة فهناك إعاقة واضحة للإمدادات الغوثية وإغلاق المنافذ المؤدية إلى غزة لمنع وصول المساعدات الإنسانية، وهذا السلوك تجرّمه اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907، وهناك أيضاً سياسة القتل العمد أثناء محاولة شعب غزة الحصول على المساعدات..
وكذلك هناك القصف العشوائي الذي يتبعه تدمير واغتصاب الممتلكات العامة من البنية الأساسية والمستشفيات.. بل إن عدداً من أفراد حكومة بنيامين نتانياهو وهو نفسه صدرت بحقهم مذكرات اعتقال في نوفمبر(تشرين الثاني) 2023 من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة مجرمي حرب، وهناك حكومات أوروبية أعلنت استعدادها لاعتقالهم منها أيرلندا، وسويسرا.
في مقابل كل ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية تعي أن القانون الدولي يقاضي الدولة المحتلة، وهي إسرائيل هنا، إذا لم تفِ بالتزاماتها الدولية تجاه شعب دولة (أرض محتلة) وهنا غزة، ومن تلك الالتزامات أو الحقوق حق توفير الغذاء وحق توفير الدواء، ولكنها في الحقيقة هي حكومة أمِنت العقوبة، وبالتالي من حقها أن تسيء الأدب مع القانون الدولي وأعرافه.
إسرائيل تمارس الهمجية المنظمة دون رادع أو قلق، إلا أن استمرار هذه الإساءة لا يخدم العيش المشترك بين أهل منطقة الشرق الأوسط وإسرائيل. الظاهر من استمرار الحكومة الإسرائيلية في التفنن لطرق وأساليب إبادة شعب غزة سببان اثنان..
السبب الأول أن حلفاء إسرائيل وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية لا يمارسون الضغط الحقيقي لإيقاف سياسة الإبادة، والدليل أن الرئيس دونالد ترامب أوقف الحرب الإسرائيلية على غزة قبل دخوله البيت الأبيض بيوم واحد فقط.
ولكن في مارس(آذار) الماضي خرق نتانياهو الهدنة وعاد بسياسة الإبادة الجماعية ضد شعب غزة ووسع دائرة الحرب، ربما لأنه قلق من المحاكمة السياسية له بسبب هذه الحروب.
السبب الثاني أنه لا يوجد ضغط داخلي حقيقي على الحكومة الحالية من أجل التخلص من نتانياهو، حتى وإن تحدثت التقارير الإعلامية الإسرائيلية بوجود ذلك الضغط من قبل المعارضة في الداخل الإسرائيلي، ولكن الأمر ليس بعيداً من سياسة توزيع الأدوار بين الحكومة والمعارضة ولكن الهدف النهائي واحد.
غياب هذا الضغط ناتج من أن هجوم حماس في أكتوبر(تشرين الأول) 2023 هو تهديد حقيقي لكيان الدولة الإسرائيلية، وبالتالي فما يقوم به نتانياهو هو من باب الدفاع عن النفس.
لذا هناك في الداخل الإسرائيلي من يرى في نتانياهو المنقذ للدولة الإسرائيلية، لأن رؤيته وحربه لا تقتصر على حركة حماس مهدد جغرافي قريب، بل تشمل تلك الرؤية كل مهددات الدولة الإسرائيلية مثل إيران وأذرعها السياسية مثل حزب الله والحوثيين.
الدرس التاريخي المهم الذي ينبغي أن تتعلمه حكومة نتانياهو أن ألمانيا هي التي ألغت النازية التي كانت ترتكب جرائم إبادة للشعب اليهودي بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك عبر تبني سياسات وسلوكيات تخلق بيئة للتعايش الإنساني بين أفراد الدولة الألمانية، وتلك السياسات حولت ألمانيا من قوة تدميرية لمحيطها الأوروبي ولشعبها إلى قوة اقتصادية تخدم العالم وليس أوروبا، فهل يتعلم من هذا الدرس؟.
على نتانياهو وفريقه أن يدركوا أهمية التفريق بين محاربة أفراد حماس وبين إبادة شعب غزة بأكمله تحت مبرر غير منطقي وهو محاربة حركة مسلحة.
وبالتالي فإن الاستمرار في هذه السياسة قد يخسر إسرائيل الكثير من المكاسب السياسية تحصلت عليها سابقاً من محيطها الجغرافي ومن المجتمع الدولي. الكل مقتنع بحق إسرائيل في الدفاع عن مواطنيها من الاعتداءات التي أحدثتها الميليشيات التي كانت تدعمها إيران مثل حماس وحزب الله، إلا أن هذا الحق لا يخولها في اتباع سياسة إبادة شعب غزة بالتجويع ومنع المساعدات الإنسانية.