لا يمكن التعامل مع التصعيد الراهن بين إيران وإسرائيل بوصفه مجرد حلقة عابرة في سلسلة المواجهات التقليدية التي عرفتها المنطقة، بل هو تطور مقلق يعكس اختلالًا أعمق في ميزان الحس السياسي، وتدهورًا في أدوات إدارة التوتر، في وقتٍ لم تلتئم فيه جراح صراعات سابقة، ولم تستقر فيه خرائط النفوذ، ولم تُستكمل فيه المشاريع التنموية التي شرعت بها بعض دول المنطقة للخروج من دوامة التاريخ المتكرر.
ففي حين تتبادل الأطراف الضربات العسكرية المباشرة، وتتسارع الأحداث على وقع التهديدات المتبادلة، تتسرب من خلف المشهد تساؤلات أكثر خطورة ترتبط بمدى قدرة النظام الدولي، بل والإقليمي كذلك، على احتواء هذه المواجهة التي باتت أكثر احتكاكاً من أي وقت مضى، وأقل قابلية للتدوير عبر الوسائل الدبلوماسية أو الاحتواء غير المباشر.
ليست هذه أول مواجهة بين طهران وتل أبيب، ولكن ما يميز اللحظة الراهنة هو أن الصراع خرج من عتمة العمليات الأمنية والاغتيالات الخفية، ودخل طور الإعلان العلني عن النوايا العسكرية، مما يجعل المنطقة بأسرها عرضة لتحولات غير محسوبة، لا تقتصر على الطرفين المتواجهين، بل تمتد إلى ساحات أوسع، ترتبط اقتصاديًا واستراتيجيًا بهذا التوتر، ومنها على وجه الخصوص دول الخليج العربي التي تدرك، بحكم الموقع والتجربة، أن ارتدادات مثل هذه المواجهات لا يمكن عزلها، ولا يمكن الاكتفاء بمراقبتها من بعيد.
لقد أثبتت التجربة، عبر العقود الماضية، أن الحروب التي تُدار في هذه الرقعة الجغرافية من العالم، نادرًا ما تبقى ضمن الحدود التي بدأت منها، ونادرًا ما تنتهي عند النقطة التي خطط لها من أطلقها، بل إن أغلب تلك الحروب، بعد أن تهدأ نيرانها العسكرية، تترك خلفها هشيمًا سياسيًا وأمنيًا تتعاظم فيه المخاطر، وتتوالد منه أزمات جديدة، أكثر غموضًا وتعقيدًا.
وفي هذا السياق، تبدو المقاربة التي تعتمدها بعض القوى الغربية، القائمة على التعامل مع كل مواجهة باعتبارها اختبارًا جديدًا لقوة الردع أو لحسن التقدير الاستخباراتي، مقاربة قاصرة عن فهم البنية العميقة لهذا الجزء من العالم، حيث لا تسير الأمور وفق نصوص جاهزة أو نماذج جامدة، بل تتشكل الأحداث فيه من تفاعل طبقات متعددة من الرمزية، والتاريخ، والحساسيات العابرة للحدود.
إن ما يجعل دول الخليج اليوم في موقف بالغ الحساسية ليس فقط قربها الجغرافي من مسرح العمليات، بل حقيقة أنها بنَت، خلال العقود الماضية، نموذجًا تنمويًا يسعى إلى التحرر من إرث الأزمات، والانفتاح على مسارات جديدة قائمة على الاستقرار والتنوع والتكامل، وهي مسارات تتعرض الآن لاختبار صعب مع كل تصعيد جديد، وكل تهديد لممرات الطاقة أو استقرار الأسواق أو الأمان الإقليمي.
ولأن الحروب في هذه المنطقة لا تُقاس فقط بعدد الطائرات أو الصواريخ، بل بمدى قدرتها على تغيير الخرائط وإعادة تشكيل أولويات الأمن، فإن الحفاظ على مسارات التوازن أصبح أكثر صعوبة في ظل تفاقم المواجهة، وتراجع الأصوات الداعية إلى التهدئة، وارتفاع منسوب الخطاب التصعيدي من كلا الطرفين، في وقت تبدو فيه بعض القوى الكبرى منشغلة بإدارة الحدث لا احتوائه، وبمراقبة النتائج لا منع الانفجار.
لقد جُرّبت القوة في أكثر من مرة، واعتُمدت كوسيلة لإسقاط أنظمة أو تقويض مشاريع نفوذ، غير أن الحصيلة النهائية لهذه المغامرات لم تخرج، في أغلب الأحيان، عن دائرة إنتاج الفوضى، بل إن بعضها أسهم في ولادة تنظيمات وكيانات أكثر تطرفًا، عجزت القوى نفسها عن كبحها لاحقًا، ما يجعل من تكرار النهج نفسه اليوم خطوة مقلقة في اتجاه لا يمكن التكهن بنتائجه.
وإذا كان لابد من درس يمكن استخلاصه من كل تلك التجارب، فهو أن المنطقة، بما فيها من تشابكات ثقافية ومصالح متضاربة وسياقات تاريخية عميقة، لا تحتمل المعالجة بالأساليب التقليدية نفسها، ولا تستجيب بسهولة للمنطق الخشن الذي يتجاهل الوقائع المحلية لحسابات دولية عابرة.
من هنا، فإن الحديث عن استقرار مستقبلي لا يمكن فصله عن إدراك أن ما يجري ليس مجرد مواجهة بين خصمين، بل هو ارتجاج متكرر في بنية غير مستقرة منذ عقود، وأن أي محاولة لإرساء توازن جديد يجب أن تنطلق من استيعاب أوسع للواقع القائم، لا من فرض معادلات مكررة أنتجت في السابق من الخسائر ما فاق كل تقدير.
فالشرق الأوسط، في نهاية المطاف، لا تحكمه الحسابات الباردة وحدها، بل تحكمه أيضًا طبقات عميقة من التاريخ والجغرافيا، يتداخل فيها المعلن بالمضمر، والظاهر بما يُدار في الكواليس، ولا يمكن بناء مستقبل آمن فيه إلا إذا توفرت الإرادة الصادقة لفهم تعقيده وتفادي إعادة إنتاج مآسيه.