د. مسلم عباس
ما يحدث في الشرق الاوسط، ليس مؤشرات لنهاية حقبة مدمرة، انما هي مقدمات لحرب اكثر تدميرا تقلب فيها موازين القوى او تثبت الوقع الحالي، بما يؤدي الى تعزيز مكانة اللاعبين الجدد وتراجع من لا يصلحون لادارة حروب القرن الحادي والعشرين.
فعل المواجهة يعطي تصورا بان هناك طرفين يتقابلان ضد بعضهم البعض، وقد يشبه ذلك كثيرا “التناطح بين الخراف حينما تستخدم رؤوسها لضرب بعضا البعض”، وفي الشرق الاوسط لا تبدو الحرب كذلك ابدا. انها حرب الحروب بين اطراف متعددة، والمقولات التاريخية التي تتحدث عن حتمية الصداقة مع عدو العدو اصبحت غير صالحة للتطبيق، والتحالفات لا تثبتها المواثيق ولا الايدلوجيا.
المنطقة تسير على رمال متحركة تتقلب فيها اوضاع الفاعلين كل يوم، ومن يحقق نصرا في الصباح الباكر قد ينام وعيناه مغرورقتان بالحزن على فقدان الاراضي التي سيطر عليها بعد جهد عظيم، والعلاقات بين مختلف الاطراف عارية امام انظار الباحثين عن مضاجعة حليف مؤقت يحقق لهم شهوة الانتقام من الاخر الذي استولى على مناطق نفوذهم او اهانهم في مكان ما.
في هذه الفوضى هناك شيء واحد يتفق الجميع على تطبيقه وباحترافية تكاد تكون متشابهة الى الحد الذي يصعب معه التمييز بين الفاعلين رغم تقاطعاتهم، انه “التضليل” الذي لا يتخلى احد عنه ففي الوقت الذي يستخدمه الطرف الاول يتهم غريمه بفعلته محاولا ابعاد الشبهة عن نفسه في لعبة الاسقاطات المكشوفة.
حرب الحروب تجري احداثها على مساحة صغيرة جغرافيا، ما جعل التماس المباشر امر شبه حتمي مهما حاول اطرافه الابتعاد عنه او تاجيله، في كل لحظة يقف العالم صامتا مرتعبا من زلة لهذا الطرف او ذاك قد تجعل الخطوط الحمراء معدومة تماما وتتحول ساحات المواجهة المنفصلة لكل جبهة الى جبهة كبيرة جدا، لا تشبه ابدا الحربين العالميتين الاولى والثانية ولا يمكن وصفها بالثالثة ابدا لان المعايير اختلف والتقنيات المستخدمة الغت الجغرافيا التي نعرفها تماما.
في البداية حاربت بعض الدول باسم القضاء على الارهاب واخرى باسم نشر القيم الديمقراطية، والساحة دوما سورية عراقية يمنية لبنانية، اكبرها في سوريا، ويعلم الجميع ان ما يعلن في الحرب يستخدم الكثير منه كنوع من العمليات النفسية وليس نشر الحقائق، وهم في سباق مع الزمن لتعزيز مواقعهم حيث الحرب طويلة والمواجهة معقدة واستنزافية الى ان تاتي لحظة الضربات الجزائية التي لا تقبل الا بمواجهة اهدافها مباشرة دون الحديث عن ارهاب او ديمقراطية.
تركيا الحليفة لامريكا وصاحبة ثاني جيش بحلف الناتو تجدها في الغرف المغلقة والمفتوحة لاجتماعات استانا المنحازة كليا للرؤية الايرانية الروسية، حتى ان انقرة قد دخلت هذه الايام في صراع فعلي مع حلفاء واشنطن في مناطق شمال سوريا وسط اتهامات متبادلة تشوه صورة الطرفين بمصطلحات دعم الارهاب.
روسيا التي تقف مع ايران وسوريا في الحرب ضد ما تسميه المخططات الغربية للهيمنة على الشرق الاوسط، لا تكف عن طمأنة الجانب الاسرائيلي من الوجود الايراني في سوريا، بل ان منظومات دفاعها الجوي الاحدث في العالم لم تطلق صاروخا واحدا باتجاه الطائرات الاسرائيلية التي تجوب المجال الجوي السوري لتضرب هدفا هنا واخر هناك.
اما الاتحاد الاوربي فقد اتخذ مسارات متعددة جعلته من اقل الاطراف فاعلية في هذه الحرب الكبيرة، وهو ذات الوضع الذي وقعت فيه دول الخليج، فبين من يدعم التنظيمات الاخوانية الموالية لقطر هناك من يدعم تنظيمات معادية لها توالي الامارات العربية المتحدة. والحرب التي بدأت لاسقاط حكومة الرئيس السوري بشار الاسد لم تمنع من المواجهات الشرسة بين الفصائل السورية الموالية لدول الخليج وامريكا.
داعش التي اعلنت امريكا وروسيا وايران الحرب عليها بشكل منفصل، وبذات الطريقة روجوا للنصر انفرادا، لم تؤدي الى تغيير في مناطق انتشار قواتهم ولا في سحب جزء من القوات التي يفترض انها استطاعت انهاء المهمة بنجاح، الا ان ما يجري عكس ذلك، والتصعيد هو اللهجة المفضلة لاعداء داعش والاعداء فيما بينهم. روسيا تزيد من استعراض اسلحتها الحديثة وامريكا ترسل المزيد من الجنود وايران ترد بتعزيز مواقعها، وفيما يتوغل الاتراك شمال سوريا يفحص الاسرائيليون قوة الرد الايراني على جبهة الجولان.
هذه الخلطة المعقدة من الخصوم لا تحوي الا القليل من الحلفاء ولا يمكن ان تنتج سلاما سوريا في القريب المنظور ولا حتى متوسط المدى، انما هي تغرس بذور حروب متشعبة وخراب تستمر آثاره لعشرات السنون.