عمّار الجندي
الواتساب، وسيلة التواصل الاجتماعي “البريئة” التي يستخدمها نحو 3 مليارات إنسان حول العالم، كانت في بريطانيا أداة لإدارة شؤون البلاد. يُقال إنّها أقدر من غيرها من وسائل التواصل على حماية الخصوصية، كما أنّ رسائلها تصل دافئة في زمن قياسي، بالمقارنة مع البريد الالكتروني وغيره من وسائل التواصل. كانت وسيلة تواصل مهمّة للوزراء والنواب البريطانيين خلال الجائحة، حين تعذّر اللقاء وجهاً لوجه، وصارت سلاحاً ماضياً مهدت ضرباته للمعارك التي تدور رحاها حالياً بين رئيسي الوزراء الحالي والاسبق. سبقت الولايات المتحدة بريطانيا في اتخاذ الواتساب أداة للقيام بنشاطات في غاية الأهمية، قبل تفشّي الفيروس بسنوات. فقد تردّد أنّ جاريد كوشنر، المستشار الخاص للرئيس الأسبق دونالد ترامب بين 2017 و2021، أجرى مباحثات حسّاسة مع شخصيات بارزة في الشرق الأوسط عبر الواتساب في تلك الفترة. كما جُنّدت هذه الوسيلة لخدمة أغراض سياسية في دول أخرى. ويُعتقد أنّ فوز جايير بولسونارو في انتخابات الرئاسة في البرازيل عام 2018، واحتفاظ رئيس وزراء الهند نارندرا مودي بمنصبه في انتخابات 2019، يعودان بدرجة كبيرة إلى حسن استغلال الزعيمين لرسائل الواتساب.وفي بريطانيا نفسها عوّل الوزراء ومساعدوهم على الواتساب بشكل كبير. وهناك أدلة تفيد أنّ حكومة بوريس جونسون (2019-2022) قد استخدمته على نطاق واسع بدلاً من رسائل البريد الإلكتروني، خلال تفشّي فيروس كورونا في المملكة المتحدة (من 2020 إلى 2022). مثلاً، أقرّت وزارة الخارجية هذا العام، باستعانة الدبلوماسيين بهذا التطبيق في عملهم. كما ذكرت أنّ دومينيك راب، وزير الخارجية الأسبق، تابع مهامه الرسمية عن طريق الواتساب بدلاً من منصّات التواصل الرسمية المشفّرة لدى الحكومة، خلال تفشّي الفيروس. بقيت مداولات راب وموظفي الخارجية البريطانية في معظمها طي الكتمان، الأمر الذي يجعل التأكّد من المدى الذي ذهبت إليه الحكومة في صناعة قرارات مهمّة عبر واتساب، صعباً. لكن الشكر موصول لوزير الصحة الأسبق، مات هانكوك، الذي أتاح للراغبين معرفة الدور الذي أدّاه هذا التطبيق في عمل المؤسسات الرسمية، وإن من دون قصد. فالرجل الذي كان في خط المواجهة الأول مع الجائحة حتى أواسط 2021، أعطى كل رسائل الواتساب الخاصة به لصحافية ساعدته في إعداد كتاب “يوميات الوباء” عن تجربته. وبعد صدور الكتاب، سرّبت 100 ألف رسالة من دون إذنه إلى صحيفة “ديلي تلغراف”. وزعمت أنّها قامت بهذه الخطوة، التي اعتبرها الوزير “خيانة”، من أجل “خدمة المصلحة العامة”. وأظهرت رسائل هانكوك بوضوح، أنّ سياسات نوقشت عبر الواتساب في جلسات تصدّرها رئيس الوزراء نفسه وكبار مستشاريه. كما سلّطت الضوء على المناخ النفسي والعملي الذي صنع فيه هذا القرار الحاسم أو ذاك، في ذروة الأزمة والعوامل التي أثّرت في صناعته. قبل تسريب رسائل وزير الصحة الأسبق، كان تطبيق واتساب يحظى بثقة واسعة كوسيلة آمنة للتواصل، الأمر الذي جعل المرسل والمتلقّي يتحدثان بصراحة واطمئنان. أما بعد فضيحته، فصار السياسيون والموظفون أكثر تردّداً في الإفصاح عن أسرارهم عبر الواتساب، خشية أن يُزاح النقاب عن ذلك الماضي من قِبل عابث أو عدو، فتقع الواقعة. في هذه الأثناء، صار ماضي بوريس جونسون ورسائله في الفترة التي قاد فيها جهود مكافحة الجائحة، وقود معركة مع سلفه. ولعلّ هذه هي المرة الأولى التي يذهب فيها الرجل، بجسده المثخن بجراح قد يكون بعضها قاتلاً، إلى ميدان “الحرب”، وهو الذي اشتهر في السنة الأخيرة، على الأقل، بهروبه من المعارك التي أثارتها فضائحه المتتالية. فقد مضى بقدميه إلى البارونة (هيثر) هاليت، رئيسة التحقيق في تعامل الحكومة مع كوفيد-19، حاملاً الكثير من رسائل الواتساب التي وجدت طريقها إليه في تلك الفترة. وكانت قاضية محكمة الاستئناف المتقاعدة، قد طلبت من الحكومة رسمياً، اطلاعها على كل رسائل جونسون. لكن وزارة شؤون مجلس الوزراء تخبّطت في ردودها وتمنّعت متذرّعة بأسباب مختلفة.
هكذا قفز جونسون من وراء الحكومة ليعطي البارونة معظم ما تريده، في خطوة بدت عفوية الى حد ما. ثم جاءت استقالته من مجلس العموم في 9 حزيران (يونيو) الجاري، والتراشق العلني بالاتهامات الذي تلاها بسبب ممارسة سوناك ” فيتو” مزعوم على قائمة ألقاب الشرف التي اقترحها جونسون، ليسلطا الضوء على جملة من الحقائق المتعلقة بـ “حرب” الواتساب تلك. وبات من الواضح انه حمل رسائل الواتساب الخاصة به إلى التحقيق في خطوة مدروسة كانت بمثابة الطلقة الأولى في معركته الدائرة حالياً مع سوناك. فهو أحرج رئيس الوزراء الذي أراد التستر على رسائل سلفه لئلا يأتي دور رسائله هو وآخرين، قد ترغب هاليت بوضعها تحت المجهر. كما جعله يبدو غير متعاون مع تحقيق رسمي بالغ الاهمية، وأثار التساؤلات عمّا إذا كان لديه، أو لبعض وزرائه ما يخفونه بخصوص مكافحة الجائحة. وربما بدأ الخلاف بين الحكومة والبارونة هاليت حول رسائل الواتساب يتفاقم في وقت كان جونسون يناشد فيه رئيس الوزراء للمساعدة على منح والده ستانلي، المتهم أخيراً بالتحرش بواحدة من نائبات حزب المحافظين، وآخرين بينهم نادين دوريس وزيرة الثقافة السابقة، ألقاب الشرف التي اقترحها هو لهم في القائمة التقليدية. ومن الممكن أنه قرر الذهاب الى البارونة هاليت برسائله حينما رفض سوناك التماسه. وإذا كان هذا السيناريو المرجح هو فعلاً ما حصل، تكون رسائل الواتساب أشبه بعود الثقاب الذي أضرم الحرائق التي يتصاعد دخانها منذ أيام من أركان حزب المحافظين الحاكم. يعتقد أن المحكمة لن تبت قبل نهاية حزيران القضية التي رفعتها الحكومة بشكل غير مسبوق ضد التحقيق لمنع رئيسته من الاطلاع على رسائل جونسون عبر الواتساب. وإذا خسرت وزارة شؤون مجلس الوزراء الدعوى، كما هو متوقع، فقد يضطر سوناك وآخرون، إلى الرضوخ لرغبة البارونة، ما يمكن أن يؤدي إلى الكشف عن اعترافات وتصريحات محرجة. ومن المتوقع ان يستمر التحقيق حتى عام 2026، أي إلى ما بعد خروج سوناك المرجّح من السلطة بنحو سنتين. وإلى ذلك الحين، ستبقى “الحرب” مستمرة، على الرغم من أنّ الضحايا بدأوا بالتساقط. ويعتقد أن الأفرقاء في حزب المحافظين قد وصلوا نقطة اللاعودة، فيما يتأجج الصراع، والتموضع جار على قدم وساق فيما يتصدر سوناك وجونسون المتراشقين بالاتهامات والاتهامات المضادة علناً. يجري تناقل الكثير من التكهنات التي يجري دسّ بعضها بهدف التضليل وخلط الأوراق. وسواء دعا سوناك الى انتخابات مبكرة، أو تحداه جونسون بالترشح مجدداً لمجلس العموم، لعل تطبيق الواتساب الذي صار ميداناً لمعارك المحافظين سيكون شاهداً على نهاية وشيكة لحكمهم المتعثر منذ 2010.