لا أحد بين الطامعين يتعلم من دروس التاريخ إلا بعد أن يصل إلى الجدار
عناصر من “حزب الله” يشاركون في استعراض عسكري في الضاحية الجنوبية لبيروت، الجمعة 14 أبريل الحالي (أ ب)
حرب لبنان التي بدأت رسمياً يوم 13 أبريل (نيسان) 1975، وتوقفت رسمياً عام 1990 بعد “اتفاق الطائف” لم تنته بعد. سلام ما بعدها كان الوجه الآخر للحرب، بحيث تسلم أمراء الحرب المناصب في السلطة برعاية النظام السوري الذي لعب أكثر من دور في الحرب. سلام بشروط الحرب ورجالها.
لا مراجعة الحرب لتعلم الدروس كانت أكثر من قراءات سطحية للأحداث، أسبابها والنتائج، ولسياسات القوى الإقليمية والدولية التي كانت تتلاعب بالمقاتلين الذين يتصور كل منهم أنه يلعب دوراً طبيعياً لا مهرب منه في المعارك. ولا المصالحات ذهبت إلى العمق بعد مصارحة ومحاسبة. كأن توقف المعارك كان مجرد استراحة محاربين. وكأن العصبيات الطائفية والمذهبية والحزبية والجهوية التي قام عليها خطاب الحرب لإخفاء الأهداف البعيدة، يمكن أن تختفي بالعودة إلى المشاركة في السلطة من دون جهود فكرية وثقافية وسياسية لفتح العيون على مخاطر استمرارها تحت سطح الوحدة الوطنية والعيش المشترك، وحتى “اتفاق الطائف” الذي أوقف الحرب، فإنه واجه حرباً عليه. أولاً للحيلولة دون تنفيذ البنود الأساسية الإصلاحية والسيادية فيه، وثانياً لتفخيخ البنود التي جرى تطبيقها بشكل زائف من أجل السيطرة على البلد. والحرب على “الطائف” كانت بداية حرب لبنان الثانية المستمرة، والتي هي أخطر من الحرب الأولى، وإن كانتا فصلين ومرحلتين في حرب واحدة.
حرب لبنان الأولى قسمت الجيش ودمرت البلد وأعادته عشرات السنين إلى الوراء من خلال وقفه عن التطور. وكانت الأدوار والمسؤوليات متعددة ومتشابكة: لبنانية، فلسطينية، سورية، إسرائيلية، أميركية، سوفياتية، وعربية، لكن لبنان لم يكن في مواجهة تهديد مصيري. القوى اللبنانية انقسمت بين فريق يحافظ على النظام وفريق يريد تغيير النظام. الفصائل الفلسطينية أغراها التحكم بلبنان، وهي تقاتل إسرائيل لكي تصل إلى تفاوض معها. واشنطن لعبت بالجميع لمصلحة إسرائيل والوصاية السورية. موسكو أدارت القوى اليسارية والفلسطينية من دون أن توافق في العمق على تغيير الدور اللبناني وطبيعة التركيبة اللبنانية. إسرائيل أرادت سلاماً مع لبنان بعد السلام مع مصر، فخاب أملها. وسوريا سيطرت على البلد ثلاثين سنة، ولم تخرج إلا بالقوة الشعبية وقوة أميركا وفرنسا، لكن الانتخابات الرئاسية بقيت تحدث بحسب الدستور. الدولة بقيت تعمل ولو بضعف شديد. العملة الوطنية ظلت صامدة. الاقتصاد لم يشهد انحداراً قوياً، ومستوى معيشة الناس بقي معتدلاً. وكل ما حدث في “الطائف” هو تغيير بعض الصلاحيات ضمن النظام.
حرب لبنان الثانية شهدت أقسى مراحلها على أيدي أمراء الطوائف والميليشيات والتركيبة السياسية الحاكمة والفاسدة. الليرة انهارت. المديونية زادت على 100 مليار دولار. 80 في المئة من اللبنانيين صاروا تحت خط الفقر. الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية قادت إلى هاوية عميقة. الانتخابات الرئاسية صارت تحتاج إلى سنوات من الفراغ والضغوط. حتى الانتخابات البلدية يجري تأجيلها. لبنان جاء قبل أفغانستان فقط على لائحة الدول الأكثر تضخماً وفساداً. السطو على المال العام والخاص والودائع في المصارف لم يحدث مثيل له في أي بلد. والأخطر هو التهديد المصيري للبنان واللبنانيين. والعمل مستمر لأخذ البلد إلى “محور الممانعة” بقيادة إيران وعزله عن أشقائه العرب وأصدقائه الدوليين. ولا مفاجآت في إعادة فتح “جبهة” الجنوب أمام “حماس والجهاد الإسلامي” كما حدث عام 1969 أمام “فتح” من خلال “اتفاق القاهرة”، وما جرى بعده من كوارث وحروب واحتلالات إسرائيلية. ولا في استخدام القوة لتغيير النظام بالتالي طبيعة لبنان وتاريخه ودوره كبلد منفتح على العالم و”رسالة” في العيش المشترك.
خلال 48 عاماً من بداية الحرب الأولى إلى اليوم في الحرب الثانية، فإن اللاعبين هم أنفسهم. لم يغب منهم أحد إلا بالموت ليخلفه ابنه أو أحد من عائلته. و”لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئاً”، كما قيل عن آل البوربون الذين عادوا إلى السلطة بعد الثورة الفرنسية وحروب نابوليون. والعامل الوحيد الذي لم يكن موجوداً في بداية الحرب، وظهر بعد 10 سنين من اندلاعها، وصار أقوى العوامل في السيطرة على لبنان، هو “حزب الله” المرتبط بالمشروع الإقليمي الإيراني.
والنهايات مختلفة. لبنان خرج من الحرب الأولى بأضرار وتشوهات وأمراض قابلة للعلاج على مدى سنوات. وهو يحتاج إلى عقود لمعالجة ما أحدثته الحرب الثانية، إذا توقفت اليوم. ولا أحد بين الطامعين يتعلم من دروس التاريخ، إلا بعد أن يصل إلى الجدار.