ليس حزن العراقيين كأي حزن، بل هو وجع متراكم بحجم التاريخ، يمتد عميقًا في جذور الأرض التي شهدت الحضارات الأولى، والحروب التي لا تنتهي، والمآسي التي أصبحت جزءًا من الذاكرة الجماعية. العراقي لا يحزن فقط، بل يورث حزنه للأجيال، في أغانيه، في أمثاله، في نظرات عينيه التي تختزن قصصًا لا تُروى، وفي ابتسامته التي تخفي خلفها جرحًا عتيقًا.
في العراق، يُولد الطفل على صوت الأمهات المفجوعات، يكبر وهو يسمع قصص الفقد والغياب، يرى صور الأحباء وقد تحولت إلى ذكريات مؤطرة على الجدران، يسمع أسماء الشهداء تُتلى كما تُتلى أسماء الأحياء، فيكبر وهو يعرف أن الحياة هنا ليست وعدًا بالفرح، بل اختبارٌ للصبر على الألم.
عبر تاريخٍ طويل، عانى الشعب العراقي من ويلاتٍ لا تُحصى، جعلت من الحزن رفيقًا دائمًا له. فمن الحروب المتتالية إلى الاضطرابات الداخلية، مرورًا بالحصارات والاحتلالات، تكوّنت لدى العراقيين ذاكرة جماعية مثقلة بالآلام.
وفي العصر الحديث، بدأت سلسلة المآسي مع الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، التي أودت بحياة مئات الآلاف وتركت آثارًا نفسية واجتماعية عميقة. تلتها حرب الخليج عام 1991، ثم الحصار الاقتصادي الذي استمر لأكثر من عقد، مما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية والصحية. وجاء الغزو الأمريكي عام 2003 ليزيد من تعقيد المشهد، حيث دخل العراق في دوامة من العنف الطائفي والاضطرابات الأمنية.
هذه الأحداث المتتالية جعلت العراقيين يحتلون مراتب متقدمة في مؤشرات الحزن والتوتر عالميًا. فقد أظهرت استطلاعات رأي دولية أن العراق ضمن أكثر 10 دول يعاني سكانها من التوتر والحزن، ويرجع ذلك إلى الظروف العصيبة التي مروا بها، خاصة في العصر الحديث، حيث عانوا من ويلات الحروب وتبعاتها، وغياب العدالة الاجتماعية والسياسات التنموية الصحيحة التي تلبي حاجات المجتمع للنهوض بالواقع وتحسين جودة الحياة.
يرى الباحثون أن هذه التراكمات التاريخية جعلت الحزن جزءًا من الهوية العراقية، حيث أصبح العراقيون ميالين إلى التوتر والحزن بسبب الظروف العصيبة التي مروا بها. وقد صوّر الشاعر العراقي مظفر النواب هذه الأحزان والعذابات في إحدى قصائده التي يقول فيها: “ما أظن أرضًا رويت بالدم والشمس كأرض بلادي.. وما أظن حزنًا كحزن الناس فيها.. ولكنها بلادي..”
حزن المنافي.. اغتراب الروح قبل الجسد
لكن الحزن لم يكن حكرًا على من بقي داخل العراق، بل امتد ليشمل من اضطروا إلى الرحيل، ليس لأنهم ارتكبوا جرمًا، ولكن لأنهم حملوا وجهات نظر مغايرة لما يجري، فوجدوا أنفسهم غرباء عن وطنهم، يحترقون بصمت على ضفاف المنافي، تائهين بين الحنين والخوف، بين الأمل والخذلان.
منذ عقود، شهد العراق موجات متتالية من الهجرة والتهجير القسري، حيث دفع أصحاب الفكر المستقل، والصحفيون، والأكاديميون، والناشطون، ثمن مواقفهم غاليًا. في العهد الملكي، كان الخلاف السياسي سببًا في نفي المعارضين، وفي ظل الجمهوريات المتعاقبة، تحولت المنافي إلى مصير محتوم لكل من رفض الانصياع لسلطة الحزب الواحد أو اعترض على سياسات الاستبداد والقمع. وبعد 2003، لم يتغير المشهد كثيرًا، بل ازدادت موجات الهجرة بسبب العنف الطائفي والاضطهاد السياسي والتدخلات الخارجية التي جعلت العراق ساحة لتصفية الحسابات.
الغربة بالنسبة للعراقي ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هي اغتراب عن الروح والهوية. فالعراقي المغترب يحمل وطنه في قلبه، لكنه لا يستطيع العودة إليه إلا بثمنٍ باهظ. في كل مرة ينظر فيها إلى جواز سفره، يشعر وكأنه ممزق بين وطنٍ لا يستطيع العيش فيه، وغربةٍ لم تمنحه الأمان الكامل. في ليالي المنافي، تتردد في ذهنه صور بغداد والبصرة والموصل، صوت المآذن مختلطًا بصوت المقاهي الشعبية، رائحة الخبز التنوري، حرارة الصيف اللاهبة، ورائحة المطر الأولى على شوارع مدينته. كل ذلك يتحول إلى وجع صامت، لا يراه أحد، لكنه يكبر مع الأيام.
ورغم ذلك، فإن العراقي في غربته، كما في وطنه، لا يستسلم. يحمل حزنه بفخر، لكنه لا يسمح له بأن يهزمه. فالغربة قد تسرق الأوطان، لكنها لا تستطيع أن تسلب الحلم، الحلم بوطنٍ حر، عادل، يحتضن أبناءه دون خوف أو إقصاء. وربما يأتي يوم يعود فيه العراقي إلى وطنه، ليس كلاجئٍ أو مغترب، بل كمواطنٍ كامل الحقوق، بلا خوف، وبلا ألم.
الحزن في العراق ليس استسلامًا، بل هو صلابةٌ وصمود، هو دمعةٌ تأبى أن تسقط إلا في العتمة، وهو نغمةٌ في مقام البيات، تخبرك أن الحزن في هذه الأرض ليس ضعفًا، بل هو لونٌ من ألوان البقاء.