الدولة العميقة في النظام السياسي الأميركي
لكل نظام سياسي أياً كانت شفافيته، وجهان: أحدهما ظاهر والآخر باطن. للوجه الظاهر قسمات وملامح واضحة ومعروفة، ترسمها دساتير وقوانين ولوائح وقواعد ومؤسسات وأجهزة أمنية وجيوش ووسائل إعلامية… إلخ، أما الوجه الباطن فبلا ملامح أو قسمات محددة، نظراً إلى وجود قوى وتيارات خفية داخل كل نظام، يغلب عليها طابع الغموض، وتعمل من وراء ســـتار، وتتفاعل في غياب قواعد تحكم حركتها أو تحدد وجهة سياساتها ومواقفها. وبين ظاهر النظام وباطنه توجد دائماً فجوة، تضيق أو تتسع حسب طبيعة كل نظام, ودرجة الشفافية التي تحكم عمل آلياته أو تحدد وجهة سياساته ومواقفه. وقد انشغلت بدراسة طبيعة وأسباب هذه الفجوة مدارس أكاديمية وقوى سياسية وفكرية مختلفة ومتنوعة.
ففي إطار محاولاتها الدءوبة لكشف تناقضات النظام الرأسمالي وتعرية ادعاءاته الليبرالية، ميّزت المدرسة الماركسية بين «البنية التحية» و «البنية الفوقية» للنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأوضحت أن للنظام الرأسمالي بنية «تحتية»، اقتصادية- اجتماعية في الأساس، تهيمن عليها طبقة تملك أدوات ووسائل الإنتاج، وأخرى «فوقية»، سياسية- فكرية في الأساس، تهيمن عليها قوى ومؤسسات تدير وتروج لسياست وأيديولوجبات تكرس سيطرة الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج على الحكم.
غير أن التطور التاريخي أثبت أن نظم الحكم التي استلهمت الفكر الماركسي لم تتمكن أيضاً من ردم الفجوة القائمة بين وجه ظاهر لنظام يدعي المثالية وآخر باطن يتسم بالوحشية، وخصوصاً بعد أن تبيّن أن نظم الحكم الماركسية التي تدعي أنها تمارس السلطة لحساب ولمصلحة الأغلبية الكادحة، تدار عبر مؤسسات سياسية وفكرية سرعان ما تكلسّت وتحوّلت إلى أجهزة بيروقراطية تدار مركزياً ولها مصالح ذاتية لا تعبر بالضرورة عن مصالح الأغلبية الكادحة، بل وغالباً ما تتناقض معها. لذا فقد استـــمر السجال بين نظم حكم اشتراكية، أطلقت على نفسها اسم «الديموقراطيات الشعبية»، ونظم حكم رأسمالية، أطلقت على نفسها اسم «الديموقراطيات الليبرالية»، حول أيهما أكثر تعبيراً عن الديموقراطية «الحقة»، إلى أن ألقى دوايت إيزنهــاور، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، بقنبلة مدوية!
ففي خطاب ودَاعي ألقاه في 17 كانون الثاني (يناير) 1961، حذّر إيزنهاور من النفوذ التسلطي المتزايد لما أسماه «المجمع الصناعي العسكري»، ورأى فيه «خطراً يهدد قيم المجتمع الأميركي الحريص على رفع راية الحرية والمساواة وحقوق الإنسان… وصعوداً كارثياً للسلطة في غير مكانها، من شأنه تعريض العملية الديموقراطية للخطر». ولمواجهة هذا الخطر المتزايد دعا إيزنهاور إلى «مواطنة يقظة واعية تبحث عن صيغة تحقق التوازن المنشود بين مصالح الصناعات الكبرى والآلة الدفاعية، من جهة، ومصالح المجتمع الأميركي المتطلع لتحقيق الأمن والحريص على ازدهار الحرية في الوقت ذاته». ورأى بعض الأوساط الماركسية في هذه الشهادة المجانية من قمة هرم السلطة الأميركية اعترافاً ضمنياً بصحة الانتقادات الماركسية الموجّهة إلى الأطروحات الليبرالية. غير أن تفكك المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي في بداية تسعينات القرن الماضي وضع حداً لهذا الجدل، إذ خُيل لكثيرين وقتها أن النظام الرأسمالي ذي الوجه الليبرالي حقق انتصاره النهائي وأصبح مرشحاً لسيادة العالم من دون منازع بعد أن وصلنا إلى «نهاية التاريخ»، طبقاً للمقولة التي ابتدعها فوكوياما، وراحت أجهزة الإعلام الغربية تروج لها بكثافة. غير أن التاريخ أثبت مرة أخرى زيف هذه المقولة. بوسع كل متابع مدقق لتطور النظام الأميركي في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أن يلحظ بسهولة أن هذا النظام عجز في الواقع عن التأقلم مع متطلبات العولمة، بخاصة بعد أن خلطت إداراته المتعاقبة بين دور كان يقوم به بوصفه الممثل الرسمي لدولة لها مصالح وطنية عبر العالم، ودور أصبح مطالباً به بوصفه واجهة سياسية لنظام رأسمالي وصل إلى أعلى مراحل تطوره عبر عملية «العولمة». فبدلاً من التشاور مع القوى الرأسمالية «المتعولمة»، بالتوازي مع القوى الليبرالية المنتشرة في أنحاء متفرقة من العالم، بحثاً عن آليات قادرة على إيجاد حلول فعالة لمشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية تواجه نظاماً عالمياً تحوّل إلى «قرية كونية صغيرة», وعلى ترسيخ قيم التسامح و قبول الآخر واحترام حقوق الإنسان في الوقت ذاته، وقع النظام الأميركي تحت تأثير غواية الهيمنة المنفردة على العالم كله، ولو بقوة السلاح، مستغلاً أحداث 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001، الأمر الذي أدى إلى تحول عملية «العولمة» إلى عملية «أمركة» مرفوضة من جانب أغلب القوى الدولية، بما فيها القوى المرشحة لتبوؤ موقع الحليف الطبيعي للولايات المتحدة. وفي سياق هذا العجز الأميركي عن التأقلم مع متطلبات عولمة منشودة تسخر أبعادها الإيجابية لمصلحة البشرية ككل، عاد الجدل القديم حول طبيعة الفجوة القائمة بين ظاهر النظم السياسية وباطنها إلى الواجهة مرة أخرى وظهرت مصطلحات جديدة للتعبير عن هذه الفجوة من بينها مصطلح «الدولة العميقة».
لو كان أيزنهاور لايزال حياً حتى يومنا هذا لما جرؤ على الحديث عن «المركب الصناعي العـــسكري» باعتــباره القطاع الممثل لقوى «الدولة العميقة». ففي زمن العولمة لم يعد قطاع الصناعات الثقيلة، بما فيها الصناعات العسكرية، قاطرة لمجمل النشاط الاقتصادي، وبالتالي لم يعد هو القطاع الأكثر تأثيراً ونفوذاً في المجتمع. فقد أدت عملية العولمة، بخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط إلى هجرة الكثير من الصناعات إلى دول أخرى تتوافر فيها الخبرات الفنية المطلوبة، وتقل فيها أجور العاملين ومستويات الضرائب، وإنما أيضاً إلى ظهور قطاعات إنتاجية وخدمية جديدة، بخاصة في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والوسائط الإعلامية والبرمجيات، أصبحت هي الأقدر على القيام بدور القاطرة في مجمل النشاط الاقتصادي والأكثر تأثيراً في تشكيل توجهات الرأي العام، وبالتالي على صناديق الاقتراع. ولأن عمليات العولمة فاقَمت من الآثار السلبية لظواهر الهجرة والبطالة والجريمة المنظمة والإرهاب، وأخلّت بالتوازنات والأنساق البيئية، وعمقت الوعي بالهويات والخصوصيات الثقافية التي استشعرت خطورة فقدان ذاتيتها الحضارية، فقد راح الرأي العام الأميركي يمر بمرحلة سيولة شديدة أفرزت خلال فترة زمنية وجيزة ظواهر شـــديدة التناقض، وهو ما بدا واضحاً في الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها أوباما عام 2008، ثم في الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها ترامب عام 2016، وهما ظاهرتان على طرفي نقيض. دافعاً قوى الدولة العميقة للتدخل لتصحيح الأخطار المحتملة في انتخابات 2008، استطاع أوباما استثمار الآثار السلبية لحرب شنها بوش الابن على كل من أفغانستان والعراق، مستغلاً أحداث أيلول (سبــتمبر) 2001، وتســببت ليس فقط في تشويه صورة الولايات المتــحدة في الخارج، ولكن أيضاً في أزمة اقتصـــادية كبرى أدت إلى تراجع مكانتها الاقتصــادية. ولأن قوى «الدولة العـــميقة» بدت في حاجة ماسة لما يشبه «ثورة تصحيح», فقد تحملت على مضض فوز شخصية من نوع أوباما، الأستاذ الجامعي من أصول إفريقية وأب مــسلم، ما كان لمثلها أن يحلم من قبل بالوصول إلى البيت الأبيض. لكن ما إن بدأ يمارس مهمات منصبه حتى خشيت هذه القوى من احتمال تجاوزه لخطوط حمراء تدفع بالمجتمع الأميركي يساراً بأكثر مما ينبغي، بخاصة عبر برنامجه للرعاية الصحية داخلياً وعلاقته المتوترة مع إسرائيل خارجياً، ومن ثم راحت تتدخل من وراء ستار لإعادته إلى نقطة التوازن المطلوبة، الأمر الذي أدركه أوباما ونجح في التأقلم معه ليضمن فوزه بفترة ولاية ثانية.
ها هو الأمر ذاته يتكرر مع ترامب، الرجل القادم من خارج صفوف الدولة العميقة، وربما على رغم إرادتها أيضاً، بخاصة بعد أن نجح في استثمار الآثار السلبية للعولمة، وما أدت إليه من تصاعد الثقل السياسي لليمين المتطرف في أجزاء مختلفة من العالم، وفي استثمار تمدد نفوذ الصهيونية المسيحية التي شعرت بقلق كبير من سياسة أوباما الشرق أوسطية، وتمكن من الوصول إلى البيت الأبيض. لكن ما إن بدأ ترامب يمارس مهام منصبه حتى خشيت قوى الدولة العميقة من احتمال تجاوزه لخطوط حمراء تتجه بالمجتمع الأميركي يميناً بأكثر مما ينبغي، بخاصة في ما يتعلق بشكل العلاقة مع المسلمين الأميركيين في الداخل وبعلاقته المريبة مع بوتن على الصعيد الخارجي، ومن ثم راحت تتدخل من وراء ستار لترويضه ومحاولة إعادته إلى نطاق الهامش المسموح له بالتحرك داخله. ولأنه يبدو رجلاً عصياً على الترويض فضلاً عن صعوبة توقع ردود أفعاله، فليس من المستبعد أن تقرر قوى الدولة الأميركية العميقة الإطاحة به في نهاية المطاف، خصوصاً أن حرباً باردة جديدة بدأت تلوح في الأفق بين روسيا والولايات المتحدة لا يبدو أن ترام قادر على فهم واستيعاب آلياتها وتبعاتها. حين يصبح النظام الأميركي نفسه على مثل هذه الدرجة من السيولة، فماذا ننتظر من نظام عالمي يبدو في حال تفسخ كامل؟