التلاقي الروسي – التركي حول سورية
من المنطقي أن مكانة ما يُسمى الاعتبارات «الجغراسية»، أي الرغبة في تعزيز مواقف الدول في ساحة العلاقات الدولية، تأتي ضمن أولويات هذه الدول في رسم سياساتها الخارجية. ولأهمية المنطقة العربية، والشرق الأوسط عموماً، سياسياً واقتصادياً، بالنسبة إلى القوى الكبرى، تأتي المنطقة في ترتيب متقدم لأولويات هذه القوى، ومن بينها روسيا. إذ ان ضغوط الجغرافيا فرضت على الأخيرة الاهتمام بهذه المنطقة من العالم. ومن حيث أن روسيا تشغل الحيّز الأكبر من منطقة أوراسيا، فإن أهمية تلك الاعتبارات الجغراسية تأتي في قمة مصالحها في الشرق الأوسط. ومن ثم، تعتمد روسيا على الصفقات العسكرية وتقنياتها، إضافة إلى التبادل التجاري، مع دول المنطقة. فهي تمكَّنت من عقد الكثير من هذه الصفقات مع دول عربية بعشرات بلايين الدولارات. وعلى رغم أهمية البعد المادي لهذه الصفقات، فإن أهميتها قد تتجاوز ذلك إلى التنسيق بينها وبين بعض دول المنطقة حول ملفات ساخنة.
يبدو هذا في العلاقات بين روسيا وتركيا التي تشهد في هذه الآونة «نقلة» استراتيجية، بعد مراحل سابقة لم تكن فيها على ما يرام. ولعل أهم ملامح هذه العلاقة الجديدة بين الجانبين تلك «الصفقة – المفاجأة» التي تم الإعلان عن إتمامها أخيراً، صفقة منظومة صواريخ «إس 400» الدفاعية المتطورة.
وبصرف النظر عن تصريح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أثناء زيارته الأخيرة لموسكو، بأن «بإمكان البلدين تغيير مصير المنطقة»، خاصة أنه لا يعبر عن حقيقة واقعية، فإن ملامح المفاجأة تبدو عبر تصريح إردوغان أن بلاده «دفعت وديعة لروسيا مقابل شراء منظومة الصواريخ». وإذا كان لنا أن نصدّق الرئيس التركي، فإن موسكو ستدفع بنفسها، بواسطة القرض، ثمن هذه الصفقة، لتزويد بلد عضو في حلف شمال الأطلسي النظام الدفاعي الجوي الروسي. بل، ما يزيد عمق هذه المفاجأة، أن روسيا نفسها كانت قد أعادت المنظومة نفسها إلى الصين قبل سنوات، بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات. واليوم، وبعد مفاوضات لم تستغرق سوى بضعة أشهر، تموّل روسيا بيع المنظومة إلى تركيا.
ولأن الأسلحة ليست كغيرها من السلع التجارية، فإن إنجاز هذه الصفقة بين روسيا وتركيا يعني إدماج منظومة دفاعية روسية داخل حلف الأطلسي، كما يعني، من جانب آخر، التلويح التركي لدول الحلف بإمكان إقامة علاقة موازية مع روسيا، والصين أيضاً. وبالتالي، يبدو أن الصفقة تأتي بمثابة «اختبار» للمعسكر الغربي، الذي إما أن يكف عن التلاعب بتركيا والاستخفاف بها، أو أن يفقدها، خصوصاً بعدما اتخذت دول أوروبية عدة موقفاً رافضاً للعضوية الكاملة لتركيا في الاتحاد الأوروبي.
بيد أن هذه الصفقة التي تناهز قيمتها بليوني دولار، لا تتوقف قيمتها الجغراسية عند حدود اختبار الغرب، أو إدماج المنظومة داخل حلف «ناتو»، رغم الأهمية الكبرى لكل منهما، بل تبدو أهميتها في تجاوز الحدود الروسية، ومن ثم التركية، لتصل إلى الساحة السورية. وهنا بيت القصيد الذي يتمحور حول التفاهمات السياسية التي نشأت بين موسكو وأنقرة حول هذا الملف. إذ، ليس من المصادفة أن تتمكن تركيا من تنفيذ تدخلاتها الحازمة ضد قوات الحماية الكردية في غرب الفرات.
فالضوء الأخضر الذي منحته روسيا، التي تملك- واقعياً – الأرض والجو السوريين بوضع اليد، ساهم في إنجاح «درع الفرات»، ومنع مشروع الفيديرالية في سورية أو تعطيله، ربما إلى حين، نقول إلى حين بناءً على الانتخابات التي تمكن أكراد سورية من إجرائها في مناطق سيطرتهم شمال البلاد، في ظل الفترة التي تركزت فيها أنظار الجميع، ولا تزال، على استفتاء إقليم كرستان العراق.
أضف إلى ذلك، أن ما يهم تركيا، ليس مصير الرئيس السوري، بقدر ما يهمها مصير حزب العمال الكردستاني، ومصير الكيان الكردي الحدودي الذي يبدو مدعوماً من الغرب، وتحديداً من الولايات المتحدة الأميركية. وإذا كانت هذه الأخيرة، وهي الحليف المفترض لتركيا، جادة في دعم قوات حماية الشعب الكردي، الفصيل الرئيس في قوات «سورية الديمقراطية»، فإن هذا سوف يخلط الأوراق ويبعثرها في شكل قد يجعل عدو الأمس حليفاً.
أما روسيا، فإنه ليس من مصلحتها بقاء الحال كما هي عليه راهناً في سورية، فهي من يدفع الفاتورة الأكبر سياسياً واقتصادياً. ولذا تسعى إلى إيجاد حل سياسي يكون كفيلاً بحماية مصالحها الاقتصادية المتمثلة في المنفذ البحري، والأمنية المتعلقة بتطويق الجماعات المتطرفة وقطع الطريق عليها قبل أن تصل إلى العمق الروسي. ولعل هذا ما يبدو من تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته الأخيرة لتركيا قبل أيام، بأن «الشروط اللازمة» لإنهاء الحرب في سورية الدائرة منذ ست سنوات، «أصبحت متوافرة».
لنا أن نلاحظ في هذا السياق، أن اتفاق «أستانة 4» الذي تم التوصل إليه في أوائل أيار (مايو) الماضي، لإنشاء مناطق وقف التصعيد العسكري، أو مناطق «خفض التوتر»، هو أساساً اتفاق روسي تركي، قبل أن تنضم إليه إيران. إذ ان هذا الاتفاق يعتبر، حتى الآن، أول اتفاق سياسي له أثر على أرض الواقع في سورية.
صفقة «إس 400» بين تركيا وروسيا ليست، إذاً، مجرد صفقة عسكرية، بقدر ما هي تلاقي مصالح بينهما حول مستقبل سورية، وربما العراق أيضاً. وهذا ما يجعل مستقبل المنطقة مفتوحاً على كل الاحتمالات التي لن تأتي بالتأكيد في مصلحة الدول العربية.