حازم عياد
سيقلص الخط الحديدي الجديد «باكو – تبليسي – قارص» الذي يمر عبر الأراضي التركية المسافة بين «بكين» والقارة الأوروبية «لندن» إلى 7000كم؛ لينقل مليون مسافر و6.5 ملايين طن من البضائع في العام في مرحلته الأولى، التي ستمتد من جورجيا إلى أذربيجان عميقا في آسيا الوسطى، لتنتهي في الصين بمراحله المتقدمة.
الخط لا يمثل بديلا لخط الحديد الصيني المار بروسيا، لكنه سيعزز من أهمية وقيمة النقل البري العابر للحدود بإضافة مهمة، وبكلف منخفضة جدا، بعيدا عن النفوذ الأمريكي؛ إذ ستستغرق الرحلة من بكين إلى لندن 15 يوما فقط، ما يعد تطورا مهما للتجارة العالمية بين القارة الآسيوية النامية والقارة الأوروبية.
التحولات والمتغيرات الجيوسياسية لا تتوقف عند حدود ثابتة في القرن الواحد والعشرين معلنة عن قوى إقليمية ذات ثقل جيوسياسي متعاظم على رأسها تركيا وأذربيجان؛ فتركيا باتت حليفا جيوسياسيا يعتمد عليه عند موسكو بشكل يجعلها حريصة على توثيق أواصر المسار الإقليمي والدولي الجديد الآخذ في التخلق والتشكل؛ امر ظهرت آثاره بتأجيل روسيا مؤتمر سوتشي وسحب الدعوات الموجهة للفصائل الكردية الانفصالية؛ مسألة لا تجري بعيدا عن طموحات الصين ومشاريعها الكبرى؛ إذ تنظر بكين بإعجاب وامتنان لهذه التطورات الاقتصادية والجيوسياسية المهمة التي جردت أمريكا من احد حصونها الجيوسياسية في قلب آسيا الغربية ممثلة بالكيان الكردي الافتراضي الذي كان سيمثل عقبة كأداء أمام هذا التطور الجيوسياسي المهم.
تركيز الصين وروسيا ومعها تركيا وايران والباكستان بات منصبا اكثر مما مضى على تخليق واقع جيوسياسي جديد، يفتح الباب لتجاوز العقبات التي يمكن للولايات المتحدة أن تضعها في طريق القوى الإقليمية الصاعدة والقوى الدولية الطامحة، في حين أن الولايات المتحدة تبدو في وضع يرثى له نتيجة الشروخ الداخلية في ساحتها السياسية ونتيجة لتضعضع الثقة بسياساتها الاقتصادية والأمنية من قبل حلفائها وعلى رأسهم الأوروبيين الذين ينظرون بريبة إلى إدارة الرئيس ترامب.
أمريكا لم يبق أمامها من خيارات للخروج من عزلتها سوى اتباع سياسة قائمة على التسويق الحاذق لأهم منتج لديها وهو السلاح بالاستعانة برئيس يملك خبرة كبيرة في هذا المجال؛ فرحلة الرئيس الأمريكي إلى كوريا الجنوبية واليابان وفيتنام لم تقدم وعودا بالتدخل العسكري وإنما عقودا للتسليح تسمح ببيع السلاح المتقدم والمتطور إلى الحلفاء المشغولين بالتهديدات القادمة من كوريا الشمالية والصين؛ فأمريكا تتمنى أن يشغل المستهلكون خصومها بحروب استنزاف لا ترغب بخوضها، في حين أن الصين تتوافر لديها بوابات جديدة برية للتعويض عن البؤر الساخنة والمرشحة للانفجار في الجنوب.
يسعى الرئيس الأمريكي وبكل قوة إلى عقد صفقة مع المؤسسات الأمريكية والشعب الأمريكي للتسويق لسياسته الجديدة التي تتضمن تنشيط الحركة الصناعة وخصوصا العسكرية بكل يجنبها الخسارة الكاملة ويجنبها خوض حروب خارجية في ذات الوقت بما يضمن تدفق مليارات الدولارات إلى السوق الأمريكية ولو مؤقتا ودون إراقة أي دماء أمريكية في حروب ضاق الأمريكيون ذرعا بها.
صفقة يأمل أن تساعده على البقاء في السلطة، ولكنها لن تضمن لأمريكا الحفاظ على نفوذها وتحالفاتها على المدى المتوسط؛ امر الأجدر به أن يقلق العقول الاستراتيجية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي المحصلة النهائية الأمر لا يتعلق بالقدرة على التسويق وبيع المنتجات بل بالقدرة على المحافظة على النفوذ وتكريسه لعقود قادمه والقدرة على التأثير في مستقبل النظام الدولي الذي باتت يبحث عن منافذ جديدة تسمح له بالتخلق والتشكل.
الصفقة الأمريكية الداخلية والعقد الاجتماعي الذي يسعى إليه ترامب لاسترضاء المؤسسات السيادية وتوفير شعبية تسمح بانتخابه مرة أخرى تواجهها تعقيدات دولية وإقليمية في العديد من البؤر الساخنة التي تمتد آثارها إلى الولايات المتحدة ذاتها؛ امر حذر منه الأوروبيون الإدارة الجديدة وخصوصا المستشارة الألمانية ميركل التي وجهت تحذيرا لإدارة ترامب بالقول أن إدارة الدول ليس كإدارة الشركات.
الواقع الجيوسياسي المتغير يمثل واقعا صلبا راسخا وذو مفاعيل بعيدة المدى في حين أن سياسة التسويق للسلع الحربية سيشعل الحروب ويزيد من تدفق اللاجئين ويرفع مستويات التطرف الناجمة عن المعاناة الإنسانية؛ استثمار يدرك الأوروبيون خطورته فهو قصير المدى يتبعه ركود وفوضى يصعب التحكم بها؛ استثمار سائل ورخو يصعب الاعتماد عليه في الدفاع عن المركز الإقليمي والدولي للولايات المتحدة الأمريكية في ظل وجود عمالقة إقليمية ودولية آخذة في التشكل والتطور.
العالم سيشهد تغيرات تصنعها السياسات القصيرة النظر والمتأثرة بالصفقات والعامل الانتخابي الأمريكي، إلى جانب سياسات ذات أبعاد استراتيجية بعيدة المدى تعمل على تغيير الحقائق الجيوسياسية والاقتصادية كأساس صلب لمرحلة ما بعد السلام الأمريكي.
وأمام هذا السرد الجيوسياسي يقف العالم العربي أمام واقع جديد متحول، ففي الوقت الذي تطور فيه الدولة وتعظم من ثقلها ووزنها الجيوسياسي، فاتحة آفاقا جديدة نجد أن العالم العربي مرشح للغرق في حروب استنزاف جديدة تدور رحاها على الأرض العربية، ليبدو العالم العربي منقطع الصلة عن التطورات المحيطة التي انتتجت قوى إقليمية كبيرة كتركيا وروسيا وقريبا جدا أذربيجان وباكستان وايران التي باتت مهيأة لدخول العالم الجديد من خلال مشروع الصين الواعد حزام واحد – طريق واحد؛ فالعالم العربي غارق في صراعاته وحروبه التي تنتمي في أغلبها إلى القرون الوسطى بكل تفاصيلها، معززا بكيان صهيوني يمثل قلعة من قلاع الرجعية والتخلف والتطرف، الذي لن تتوقف فصوله الكئيبة عن إلقاء ظلالها على واقعنا المعاصر.