ابراهيم العريس
على رغم أنها ليست العمل الأشهر في إنتاج مبدعها، يمكن اليوم النظر إلى لوحة المكسيكي دييغو ريفيرا بوصفها الأجمل بين أعماله التي حققها خلال المرحلة التي شهدت ذروة تألقه، ولكن كذلك ذروة تألق فن الجداريات الذي كان واحداً من أبرز مبدعيه، إلى جانب زميليه سيكييروس وأوروزكو. فنحن نعرف أن الثلاثة، وكلّ على طريقته وإنما في اتجاه سياسي يكاد يكون واحداً وإن اختلفت تياراته، أبدعوا تلك الفنون التي أضفت على وطنهم المكسيكي سمات فنية شعبية تخرج، في حركة ثالثة ذات دلالة، من الحيز الأول الذي كان للفن التشكيلي حتى عصر النهضة الإيطالي، ومن الحيز الثاني الذي ورث الأول فأوصل اللوحات، وبمقاييس أكثر تواضعا إلى بيوت أعيان القوم ضمن إطار «أنسنة» الفنون وإعطائها أبعاداً دنيوية سادت طوال قرون عديدة هي تلك التي نعتبرها «زمن الإنسان»، إلى الحيز الثالث الذي كان أولئك الرسامون المكسيكيون الثلاثة رواداً فيه، ليصل بعد الزمن الذي أبدعوا خلاله بعقود قليلة من السنين، إلى الشوارع حيث باتت الجداريات زينة، عشوائية ربما واستفزازية بالتأكيد، لا تخلو منها مدينة من المدن وغالباً من دون أن يلاحظها مشاهدوها الذين هم من المارة العاديين الذين قد يحدث أنهم لا يلتفتون إليها حتى، إذ صارت جزءا من حياتهم اليومية ومشهدها. ولكي لا نطيل الحديث عن موضوع يحتاج تحليله وتحديد إرتباطاته الإجتماعية إلى دراسات عديدة ومطوّلات مسهبة، نعود هنا، بعد هذه الإشارات، الى موضوعنا وهو تلك اللوحة التي حققها دييغو ريفيرا عام 1947 وتوجد اليوم في المتحف المخصص له، «متحف دييغو ريفيرا الجداري» وسط مدينة مكسيكو.
> اللوحة عنوانها «حلم بعد ظهر يوم أحد في متنزه الميدا المركزي» لكنها تعرف اختصاراً بـ «حلم الميدا». ولعل أول ما يمكن قوله في صدد هذه اللوحة يتعلق بحجمها. فهي ربما تكون واحدة من أضخم اللوحات المنقولة في تاريخ فن الرسم، حيث يزيد ارتفاعها عن أربعة أمتار (417 سنتم تحديداً)، فيما يقل عرضها قليلا فقط عن ستة عشر متراً (1567 سنتم تحديداً). ومن هنا سيكون من الأنسب والأسهل اعتبارها منتمية إلى فنون العمران بدلاً من انتمائها إلى تلك الفنون التشكيلية التي تضم لوحات يمكن تعليقها في أي بيت وفي أي مكان. لكننا نعرف في الوقت ذاته أن لوحة ريفيرا ليست فريدة من نوعها بين فنون تلك الحقبة التي انتشرت في المكسيك، كما في غيرها من البلدان وربما أحياناً بريشة فنانين مكسيكيين. ولعل أطرف ما في الأمر هو أن دييغو ريفيرا نفسه قد استدعي ذات حقبة إلى الولايات المتحدة ليحقق جداريات بتمويل من الثري الأميركي الشمالي روكفلر، على رغم التضاد الحاد في النظرة الفنية والسياسية والإيديولوجية بين الرجلين. وأدركنا أن ذلك التعاون نتج عن سوء تفاهم إذ إن الثري الراسمالي الأميركي لم يدرك الجوهر الشعبي والسياسي والثوري الذي كان يحرك ذلك الفن، بينما إعتقد الفنان الشيوعي أن الرأسمالي قد استدعاه لأنه آمن بأفكاره ولو من طرف خفي.
> لكن هذا ليس موضوعنا. فإذا كان قد حدث لريفيرا وبعض زملائه أن رسموا لمصلحة رأسماليين أو مؤسسات يتناقض فكرهم مع فكرها، من المؤكد أن الجزء الغالب من نتاجهم كان يُحقّق باسم «الشعب والثورة»، كما كان يحلو لريفيرا أن يقول. وفي هذا الإطار، بالطبع ولدت هذه الجدارية الضخمة والمدهشة التي نحن في صددها هنا.
> تمثل «حلم آلميدا» مشهدا يبدو للوهلة الأولى طفوليا، مشهد عيد تجمع المشاركون فيه في بقعة واحدة واصطفوا كما لو من أجل صورة تُلتقط لهم. غير أن تأملاً في اللوحة سوف ينتقل بنا إلى مكان آخر بالتأكيد: إلى تاريخ المكسيك وواقعها الراهن. المكسيك في كل فئاتها الشعبية والأقل شعبية، في مثقفيها وصحافتها، ثوارها وساستها. اللصوص ورجال الشرطة. البائعين والحسناوات. الأرستقراطيين والبائسين. العائلات والأفراد. كلهم هنا إنما متحلقين من حول الموت الذي يتوسط الصورة تماما. الموت ممثلاً بهيكل عظمي يرتدي ثياب امرأة أنيقة. أما الأمور الأكثر دلالة في هذه النقطة المركزية من اللوحة فهي أن الرسام وضع امرأته الرسامة والمناضلة فريدا كاهلو إلى يمين «الموت»، جاعلاً من نفسه، وهو المعروف بكونه عملاقاً، فتى يكاد يكون مراهقا يقف أمام إمرأته المستندة اليه وهو مرتد ثيابا ولادية. (والحقيقة أن هذا المشهد الذي يمثله طفل أو فتى مراهق، فيما تحيطه فريدا بحنان أمومي تبدو معه أضخم منه وأكبر، مشهد تكرر كثيراً في لوحات لفريدا نفسها خارج إطار هذه الجدارية). لكن فريدا ودييغو و «الموت» ليسوا الشخصيات الوحيدة المعروفة في اللوحة. بيد أن المرء ينبغي أن يكون مطلعاً على تاريخ المكسيك، في القرن العشرين على الأقل، حتى يتعرف على كلّ من وما في اللوحة، إذ إن هذا المشهد البانورامي المتعدد، يخاطب تماماً وعي المشاهد المكسيكي، ناقلاً إليه مشاهد وشخصيات ينرسم من خلالها تاريخ ما لبلده. ونقول «تاريخ ما» وليس «تاريخ» بالمعنى المطلق، بالنظر إلى أن ريفيرا، كفنان مناضل، لم يتوخّ من هذه الجدارية أن تكون سردا محايدا لحقب معينة أو مختارة بعناية من تاريخ المكسيك. بل أرادها أن تكون صورة للمكسيك كما يعرفها ويفضلها هو بدءا من الفتى المنهمك في بيع صحيفة «الإمبرسيال» التي كانت أشهر صحف تلك المرحلة وصولاً إلى البطل الوطني خواريس الذي تولى رئاسة المكسيك في واحدة من أكثر حقب هذا البلد تقدماً وديموقراطية، ولا سيما خلال مرحلة حرب الثلاث سنوات والتدخل الفرنسي.
> إذاً بين هذين القطبين الأقصيين، والذين يفرق بينهما قطاع عريض من تاريخ المكسيك، موضع دييغو ريفيرا أحداث الجدارية، ناهيك بموضعته مختلف الطبقات الاجتماعية. فالكلّ هنا، من الصحافيين الشعراء (وأبزهم غوتييرز ناييرا مؤسس صحيفة «آزول») إلى بائعي الحلويات والبالونات إلى الفلاحين الذين لا تزال تبدو عليهم ملامح الثوار إلى الجنود المتعقبين كلّ من تسوّل له نفسه أن يتمرد. ولئن كانت «كالافيرا كاتارينا» ممثلة الموت هنا تحضر ليس بصفتها الملائكية المكروهة، بل كجزء من التراث الشعبي المكسيكي، حيث نعرف كم أن الموت مرتبط بالمكسيكيين ويشكل جزءاً أساسياً من حياتهم اليومية لا من خوفهم المستديم، فإنه من الأمور ذات الدلالة أن تُصوّر كاتارينا وحول عنقها تلك التميمة المسماة كوتزالكولاتل والتي تعتبر نوعاً من الرمز لممجمل تراث المكسيك وأميركا الوسطى. وكذلك من الأمور ذات الدلالة أن ترينا الجدارية محاولة الثوار في جزء منها، العبور إلى داخل المشهد فيما يحاول رجال الشرطة منعهم من ذلك لخشيتهم من أن يزعجوا متنزهي الميدا. ولكن غير بعيد من هؤلاء وأولئك يقف حالما المدعو نيكولاس زونييغل إي ميراندا المرشح الدائم للرئاسة. فبماذا تراه يحلم؟ ربما بأن يسند اليه الرئيس بورفيريو دياز منصباً وزارياً. وإلى اليسار قليلاً وبتكوين شبه كاريكاتوري يقف السياسي/ العسكري لويس لوبو غويريرو الملقب بالجنرال «أوسمة» لفرط ما يحمل منها.
> على شاكلة هذه الشخصيات التي «أوقفها» ريفيرا معاً في جداريته، تنتشر عشرات الشخصيات الأخرى بعضها معروف في ذاته، وبعضها الآخر يوجد هنا كرمز لشرائح راهنة أو غابرة من المجتمع المكسيكي، والكل حاضر كتأشير على تاريخ هذا البلد مجموعاً كله في بوتقة واحدة. بوتقة تجعل كل فرد مميز، سلباً أو إيجاباً، وكل مجموعة من الناس يجدون صورتهم معكوسة كما لو أنهم أمام مرآة ولكن في بعد واقعي لا يخلو من كاريكاتورية. لكنه بالتأكيد يبدو بعيداً من بدايات ذلك الرسام وتطلعاته التجريبية في مجال الأشكال الفنية.
> فدييغو ريفيرا (1886 – 1957) كان على الأقل خلال اقامته المبكرة في باريس، واحدا من أوائل الفنانين غير الفرنسيين الذين انضموا الى الحركة التكعيبية حين انطلقت حتى من قبل بيكاسو، كما سوف يكون بعد حين واحدا من الذين أسلموا قيادهم الفني إلى مؤسس التيار السوريالي وزعيمه أندريه بريتون. وكان هذا الانتماء الأخير هو الذي قاده إلى الفن الثوري إنما على طريقة ارتبطت بنظريات تروتسكي (فيما سيرتبط زميله ومواطنه سيكييروس بنظريات ستالين في الفن والسياسة إلى درجة سيقال معها أن سيكييروس ساهم في اغتيال تروتسكي لحساب ستالين يوم كان تروتسكي المنفي في المكسيك، في ضيافة ريفيرا وزوجته فريدا). ومن هنا كان كل ذلك التسييس للفن الذي وجد ذروته في فن الجداريات ولا سيما في هذه اللوحة الضخمة البديعة.