حل مشكلة الذكاء الاصطناعي في أوروبا يختبئ أمام أعين الجميع

2

بارمي أولسون

في أثناء غداء فاخر بمنطقة «مايفير» عام 2013، واجه مستثمر محلي معني برأس المال المغامر، مؤسسي ما كان يُعتبر آنذاك أهم شركة ذكاء اصطناعي في أوروبا، بواقع مؤلم. كان مؤسسا شركة «ديب مايند» يتحدثان إلى ممولهما، في أثناء تناولهما أطباقاً من المطبخ الكانتوني، عن خططهما لتغيير العالم من خلال نماذج ذكاء اصطناعي تتفوق على البشر.

w

وذكر ديميس هسابيس، الرئيس التنفيذي، ومصطفى سليمان، الشريك المؤسس، أنهما عادا لتوهما من ماونتن فيو بولاية كاليفورنيا؛ حيث رفضا عرض استحواذ بمئات الملايين من الدولارات. وعبّرا عن رغبتهما في الحفاظ على استقلال الشركة والسعي وراء الطموحات الكبرى.

وهنا، ردّ المستثمر بدهشة: ماونتن فيو؟ تقصدان «غوغل»؟

أومأ المؤسسان برأسيهما، فاقترب المستثمر منهما ليعطيهما نصيحة تتكرر كثيراً على مسامع رواد الأعمال البريطانيين والأوروبيين الطموحين — نصيحة كانت تعوق النظام التكنولوجي في المنطقة باستمرار: «اقبلا العرض».

وعبر المستثمر عن اعتقاده بأن هسابيس كان يتخلى عن بيضة ذهبية بقيمة 80 مليون دولار يمكن أن تضمن مستقبل أسرته الشابة. وسأله إن كان حقاً يريد الاستمرار في العيش في شقة بشمال لندن، في حين أن «غوغل» ستجتذب في نهاية الأمر أفضل مواهب فريقه وتسحق شركته الناشئة.

وبعد أشهر، باعت «ديب مايند» نفسها لـ«غوغل» مقابل 650 مليون دولار.

كانت صفقة رابحة لمحرك البحث العملاق: فرغم أن هسابيس لم يكن يمتلك موارد التمويل الضخمة المتوفرة لرواد الأعمال في وادي السيليكون، فإن تمركزه في أوروبا مكّنه من الوصول إلى نخبة من المواهب الأكاديمية منخفضة التكلفة.

جدير بالذكر أن المملكة المتحدة وأوروبا تضم 9 من أفضل 25 معهداً بحثياً في العالم — أكثر من أي منطقة أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين. وكانت «غوغل» و«فيسبوك» و«مايكروسوفت» قد بدأت للتو بإدراك أن فرعاً من الذكاء الاصطناعي يُدعى «التعلم العميق»، على وشك إحداث ثورة في المجال. إلا أن هسابيس كان قد سبقهم إلى استقطاب عدد من أفضل الباحثين في هذا المجال على مستوى العالم.

وبفضل هذه الصفقة، استطاعت «غوغل» استخدام خبراتهم لتعزيز خدماتها، فيما حصل المستثمر على عائد مربح. أمّا أوروبا، فقد خسرت مرة أخرى أحد أبطال التكنولوجيا لصالح وادي السيليكون.

من جهتها، تُعد أوروبا أكبر منتج في العالم للمنشورات العلمية، وتقود أبحاثاً في مجالات التقنية العميقة مثل الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، فهي لا تمتلك سوى 14 في المائة من «اليونيكورنز» — أي الشركات الناشئة التي تتجاوز قيمتها مليار دولار. من جهتهم، كان الباحثون في جامعة كامبريدج البريطانية أول من رسم خريطة بنية الحمض النووي، وشطر الذرة، وطور علاجات جينية. كما اخترع البريطاني تيم بيرنرز – لي الشبكة العنكبوتية العالمية، بينما كان يعمل في سويسرا، ووضع آلان تورينغ الأسس الأولى للذكاء الاصطناعي في «بلتشلي بارك» بإنجلترا.

ومع ذلك، نجد أن كل هذه الإنجازات جرى تسويقها وتوسيع نطاقها من قبل شركات أميركية.

في الواقع، فإن التركيز الأوروبي على إتاحة التكنولوجيا للجميع ليس بالضرورة أمراً سلبياً. وقد أصر بيرنرز – لي على أن تُتاح الشبكة العنكبوتية مجاناً للعالم بأسره ـ قرار أطلق العنان لموجة من الإبداع والابتكار حول العالم.

إلا أن «المشاركة» بدلاً من «البيع» لها ثمن، فأوروبا تأتي في المركز الثالث، وبفارق كبير، بعد الصين والولايات المتحدة في سباق تطوير النماذج الأكثر تقدماً من الذكاء الاصطناعي.

وقد سخر بعض المؤثرين في مجال التكنولوجيا من القارة العجوز، بنشر صور تُقارن بين أجهزة «آيفون» المتطورة والزجاجات البلاستيكية ذات الأغطية المربوطة، باعتبارها تجسيداً لما تبدو عليه «الابتكارات» الأميركية والأوروبية جنباً إلى جنب.

وقد ألقى كثيرون باللوم على تركيز القارة على التنظيم واللوائح، مثل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي، الذي يمثل أول محاولة شاملة في العالم لتنظيم الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول.

بيد أنه في الواقع التنظيم ليس العدو في هذه القصة، فالقول بذلك مجرد ترديد لدعاية شركات التكنولوجيا الكبرى، التي تسعى لمقاومة القوانين الضرورية والمعقولة التي قد تهدد نماذج أعمالها.

في الواقع، تكمن المشكلة الحقيقية للذكاء الاصطناعي داخل أوروبا في المال، والحل بسيط: المزيد منه، تحديداً في الفشل المستمر في ضخ استثمارات ضخمة في أكثر شركاتها ابتكاراً. أمّا الحل، في أبسط صوره: المزيد من المال.

ولننظر على سبيل المثال إلى شركة «وايف تكنولوجيز ليمتد»، شركة ناشئة بريطانية تعمل في مجال القيادة الذاتية، وتُعد أحدث درة في تاج الذكاء الاصطناعي البريطاني. طوّرت الشركة أنظمة تمكّن السيارات الحديثة من القيادة الذاتية باستخدام الكاميرات والبيانات فقط، وبنهج أكثر مرونة في التنقل مقارنة بشركة «تسلا». عام 2024، جمعت الشركة مليار دولار في جولة تمويل قادتها مجموعة «سوفت بنك»، وشاركت فيها كذلك «مايكروسوفت» و«إنفيديا». ومع ذلك، لم يأتِ هذا التمويل من المملكة المتحدة أو أوروبا بثمار تذكر.

من جهته، قال الرئيس التنفيذي لشركة «وايف تكنولوجيز ليمتد»، أليكس كيندال، من مكتبه في منطقة كينغز كروس بلندن (قريب من المقر الفخم لـ«غوغل ديب مايند»): «اضطررنا للبحث عن الدعم خارج البلاد».

لقد استفادت منطقة «باي إيريا» من عقود طويلة في بناء نظام تكنولوجي مزدهر، عبر دورات من الطفرات والانهيارات، ما أسهم في تكوين أجيال من رواد الأعمال والمستثمرين.

في المقابل، فإن أقل من 10 في المائة من مستثمري رأس المال المغامر في أوروبا سبق لهم تأسيس شركات، مقارنة بـ60 في المائة في وادي السيليكون.

ليس من الصعب على الشركات الناشئة في أوروبا جمع التمويل في المراحل الأولى (بملايين الدولارات)، لكن المشكلة تظهر عندما تحتاج هذه الشركات، مثل «وايف تكنولوجيز ليمتد»، إلى مئات الملايين لتوسيع أعمالها.

وقد زادت حمى الذكاء الاصطناعي من حدة هذه الأزمة في تمويل المراحل المتقدمة. كانت حصة أوروبا من تمويل رأس المال المغامر العالمي في ارتفاع حتى عام 2022؛ حيث بلغت 22 في المائة — رقم قياسي. إلا أنه بعد إطلاق «تشات جي بي تي»، بدأت تلك الحصة تتراجع، في الوقت الذي كانت شركات التكنولوجيا الأميركية تُنفق بسخاء على تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي. في مارس (آذار)، جمعت شركة «أوبن إيه آي» مبلغاً قياسياً بلغ 40 مليار دولار، فيما تجري منافستها «أنثروبيك» في سان فرنسيسكو، محادثات للحصول على 10 مليارات دولار. ومن المتوقع أن تنفق 4 من كبرى شركات التكنولوجيا 344 مليار دولار هذا العام، يُخصص معظمها لمراكز البيانات اللازمة لتشغيل الذكاء الاصطناعي. وكلما زاد إنفاقهم، زادت الفجوة التمويلية مع الشركات الأوروبية.

الحل؟ لا علاقة للأمر بتخفيف اللوائح – بل في قطاع يبدو بعيداً تماماً عن عالم الذكاء الاصطناعي – لكنه موجود أمام أعيننا: صناديق التقاعد.

تستثمر صناديق التقاعد الأوروبية، في المتوسط، 0.018 في المائة فقط من أصولها في رأس المال المغامر، مقارنة بـنحو 2 في المائة لنظيراتها الأميركية، بحسب شركة «أتوميكو» البريطانية.

هنا، يبدو الفارق ضخماً: تمتلك صناديق التقاعد الأوروبية أكثر من 10 تريليونات يورو (11.7 تريليون دولار) تحت الإدارة. ومع ذلك، مقابل كل دولار تستثمره في شركات رأس المال المغامر التي تُعد شريان الحياة للشركات الناشئة التكنولوجية، يضع الصندوق الأميركي أكثر من 100 دولار.

في الواقع، فإنَّ استثمار 2 في المائة فقط من أصول صناديق التقاعد الأوروبية، أي 236 مليار دولار، كفيل بأنَّ يُحدث تحولاً جذرياً في قطاع التكنولوجيا الأوروبي.

ويعزى هذا الحذر الشديد في جزء منه لأسباب ثقافية، بينما يعود جزء آخر لأخطاء سياسية.

في بريطانيا، على سبيل المثال، ألغت حكومة رئيس الوزراء الأسبق غوردون براون في أواخر التسعينيات خطة رئيسة للإعفاءات الضريبية لصناديق التقاعد المحلية، ما أبعدها عن دعم الشركات الناشئة أو حتى اكتساب الخبرة اللازمة للاستثمار فيها.

في المقابل، شهدت الولايات المتحدة إصلاحاً للقوانين التي كانت تفرض توخي الحذر. كان على مديري صناديق التقاعد الأميركيين، لأكثر من قرن، أن يتبعوا مبدأ الاستثمار كما لو أنهم «شخص حذر معني بمصلحة المستفيدين». وعندما عدّلت وزارة العمل القانون لتقييم أمان المحفظة الاستثمارية ككل، بدلاً من كل استثمار بمفرده، أصبح بإمكان الصناديق الاستثمار في أصول أكثر مخاطرة، مثل رأس المال المغامر. وفي غضون 8 سنوات، ارتفعت نسبة استثمارات صناديق التقاعد الأميركية في شركات رأس المال المغامر من 15 في المائة إلى أكثر من 50 في المائة، ما أطلق موجة تمويل ضخمة دعمت نمو وادي السيليكون. بيد أنه لا تستطيع أوروبا تطبيق تغيير شامل مماثل، لأن سياسات التقاعد تُقرّ على مستوى كل دولة. كما أن مديري الصناديق في أوروبا يفضلون، ثقافياً، حماية أموال المتقاعدين بدلاً من تعظيم النمو.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»

التعليقات معطلة.