حماية الذاكرة.. نصر العراق على “داعش”

3

آراء

في كلّ ذكرى ليوم النصر على تنظيم داعش الإرهابي (10 كانون الأول/ ديسمبر)، تجدّد التيارات السياسيّة المسلّحة في بغداد سرديتها التي تحذف بالكامل جهود التحالف الدولي في تلك الحرب الضروس، وتحذف معها أدوار الجيش والشرطة الاتحادية وقوّات البيشمركة والمتطوّعين من المناطق المحرّرة. بل وتمحو أيضاً معاناة الأهالي، وأشكال المقاومة التي قدّموها ضدّ التنظيم الإرهابي؛ تلك المقاومة التي يصعب عدّها أو حصرها، بدءاً من المعلومات الاستخبارية التي وفّرها الكثير من سكان المناطق المحتلّة وتعاونهم مع القوات الأمنية العراقية، مروراً بمحاولات الإنقاذ الفردية التي بذلت لإنقاذ أكبر عدد ممكن من المدنيين، أو تلك التي جرت بتنسيق مباشر مع السلطات الرسمية. وهذه الوقائع كلّها تستحق أن تُوثّق بكتب ودراسات، وأن تُنتج عنها أفلام وثائقية، في أقلّ تقدير.

 

نعم، كانت الحرب حرب العراقيين من أجل بلدهم واستقلالهم ومستقبلهم، ولم يكن للنصر أن يتحقق لولا دماء الشهداء وتضحيات الرجال والنساء. لكنها، في الوقت ذاته، لم تكن معركة فردية. لقد كانت معركة الجميع ضدّ تنظيمٍ إرهابي عابر للحدود، ومن الإنصاف أن يُذكَر جميع المقاتلين وشركاء المواجهة في الصورة النهائية للنصر.

 

حين سقطت الموصل في العاشر من حزيران 2014، بدا وكأن العراق يدخل منعطفاً لم يعرفه في تاريخه الحديث. لم يستوعب أحد حجم الانهيار السريع الذي ضرب القيادات العسكرية، فسقطت المدينة خلال ساعات، وتدفّق سلاح الجيش المنسحب إلى يد التنظيم الذي وجد نفسه فجأة مجهزاً بترسانة كاملة. في اليوم التالي انهارت تكريت، لتتقدّم موجة داعش جنوباً نحو سامراء، المدينة التي كانت على مرمى خطوة واحدة من كارثة تاريخية.

 

في تلك اللحظة تغيّر المشهد. فبينما كانت المدن تسقط تباعاً، شهدت سامراء أول توقف فعلي لموجة التنظيم. جهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية وقوّات حماية العتبة، ومعهم عشائر المدينة، وقفوا أمام الهجوم وأوقفوا امتداد السيل. كان ذلك أوّل دليل على أن الانهيار ليس قدراً محتوماً.

 

بعد يومين صدرت فتوى الجهاد الكفائي من مرجعية النجف، وبدأت طلائع الحشد الشعبي تتشكّل من آلاف المتطوّعين الذين انتشروا حول بغداد وسامراء وكربلاء، في محاولة لتثبيت الخطوط التي اهتزّت فجأة. وفي تلك الأثناء كانت القوات الأمنية تخوض معارك شرسة في بلد والدجيل، وتمنع داعش من التقدّم نحو قاعدة البكر الجوية، فيما كانت وحدات الجيش والشرطة تتمركز في ديالى لمنع التنظيم من فتح طريق إلى بغداد عبر العظيم والطارمية.

 

في الشمال، كانت البيشمركة تتحرّك بسرعة لملء فراغ المناطق التي انسحب منها الجيش. سيطرت على كركوك، ووقفت في خطوط طويلة تمتدّ من مخمور إلى جلولاء. ورغم ضعف التسليح الثقيل، تمكّنت من صدّ الموجة الأولى من هجمات داعش، حتى بدأ التنظيم يضغط على محاور واسعة لا تستطيع قوّة واحدة تغطيتها كاملة.

 

ومع اقتراب نهاية تموز، بلغت العاصفة ذروتها. سقطت سنجار في 3 آب، وتعرّض الإيزيديون لكارثة إنسانية، فيما اقترب داعش من تخوم أربيل. كانت لحظة بدا فيها كلّ شيء قابلاً للانهيار. ومع ذلك، استقرّت خطوط الدفاع الكوردية بدعمٍ ميداني محدود، وبانتظار قرار دولي لم يصدر إلّا في الثامن من آب، عندما نفّذت الطائرات الأميركية أولى ضرباتها.

 

خلال السنوات اللاحقة، نفّذ التحالف أكثر من34 ألف غارة جوية في العراق وسوريا، منها ما يقارب13 إلى 15 ألف غارة داخل العراق. أمّا الطلعات الجوية المختلفة، فقد تجاوزت 120 ألف طلعة، بينها نحو50 ألفاً فوق الأراضي العراقية. ومع كلّ غارة، كانت قدرة داعش على المناورة تتضاءل. التنظيم الذي اعتمد في البداية على الأرتال الثقيلة والدبابات وعربات الهامفي، فقد خلال السنة الأولى 80% من ترسانته الثقيلة. لم يعد قادراً على شنّ هجمات واسعة أو نقل قواته بين الجبهات كما فعل في حزيران وتموز 2014. الطائرات المسيّرة وطلعات المراقبة شلّت قدرته على التخفي، فيما الضربات الدقيقة قصفت مراكزه القيادية وورش التفخيخ ومخازن الأسلحة.

 

لم تكن هذه الضربات وحدها كافية لإنجاز المهمّة، لكنها كانت سنداً حاسماً للعراقيين في معركتهم. والنصر، في النهاية، عراقيّ الهوية، وتبقى ذكرى التحرير مناسبة للوقوف احتراماً للدماء الطاهرة التي سالت من شباب الشرطة الاتحادية والجيش ومكافحة الإرهاب والحشد والبيشمركة والمتطوّعين من مختلف الخلفيات. ومن الظلم تجاهل أحد من هذه الصورة الكاملة التي عبّرت عن إرادة الحياة لدى العراقيين وقدرتهم على المواجهة.

التعليقات معطلة.