حوارات الرباط وإعلان مراكش!

1

حسن المصطفى

لقاء وزير الأوقاف المغربي بوفد مؤسسة حلف الفضول الجديد.

العاصمة المغربية الرباط، كان الوقت قريب الظهر، عندما وصلت إلى محطة “أكدال”، قادماً بالقطار من مراكش، المدينة الحمراء التي أُحب رغم حرارة طقسها الصيفي الحار، وشمسها المتربعة على العرش في النهارات الطويلة، وهي مع ذلك لها جاذبيتها التي لا يعرفها إلا من كان له من الوجدِ نصيب!  استقبلني الصديق العزيز محمد سالم بابتسامته الصافية، وراحت السيارة تأخذنا في الطرقات الجميلة، وكأنها تسيرُ متبخترة بين العشبِ الأخضر والزهور الباسقة، لتهطل الحكايا كالمطر الشفيف. سنواتٌ طويلة مضت، لم أزر فيها الرباط، وعدت إليها بُعيد طولِ مسيرٍ، لأجدها كالحسناء التي كُلما كبرت، زادت جاذبية وأناقة وذكاء.حطتِ الرحالُ في “حي الرياض”، صعدتُ إلى غرفتي وأزحت الستار عن زجاج النافذة، لـ”أُطل كشرفة بيتٍ على ما أريد” كما يقولُ محمود درويش.ما هي إلا ساعة، إلا وأنا أرتدي الجلابة المغربية التقليدية، منتظراً في بهو الفندق، حين جاء المحفوظ بن بيه، متأبطاً محبته، لنذهبَ خفافاً إلى حي “السويسي”، وتحديداً “مسجد العتيبة” حيث تقام صلاة الجمعة.  كان المسجد أخاذاً في جماله، النقوش التقليدية، الخشب القديم، السكينة، والناس سواسية في صفٍ واحدٍ يتلوّن الأذكار والأوراد بخشوع، فيما خطيب الجمعة أطلَ من فوقِ الأعواد، دون أن يُطنب في الحديث، أو يدخل في الدين ما ليس فيه. صوت التلاوة بروحانية، والتسابيحُ بعد الصلاة، تجعلك تستذكر ملكوت الله وتحمده على نعمه، وتستشعر رحمانية الدين، وقول الحق “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً للْعالَمِينَ”! كنت أقف في الصف الثاني، قرب الإمام، وحولي أماكن خاوية، وبين فينة وأخرى، أترقب دخول العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، ليأخذ مكانه بين المصلين، حيث من عادته أن يأتي للصلاة في مسجد “العتيبة” أيامَ الجمعِ. انقضت الصلاة، ولم أجد بن بيه بالقرب مني، خلا ابنه الشيخ المحفوظ، حيث قدمنا سوية إلى المسجد. سلمت عليه، وذهبنا صوب الباب، لأجد والده العلامة جالساً بعيداً عن صدرِ الجامعِ، جهة الجناح الأيمن، مع ثلة من أبنائه وأحفاده ومريديه، يقرأ بعض الأذكار. كانت الصورة تطبيقاً واقعياً لقولِ العرفاء “الرجل هو الذي حيث يكون فتجيئهُ الأشياء، أو حيث يكون فتخاطبه الأشياء”. لم يتقدم بن بيه لإمامة الناس، ولم يحجز مكاناً في الصف الأول، ولم يتصدرِ الحضور ليسلم عليه المصلون ويقبلون يده، بل جاء ليؤدي فرضه، ويذكر ربه، ويستغفر ذنبه، ويسأل المولى مدده وعونه ونوره وحكمته ورضاه. خرجنا من المسجد، واتجهنا إلى الفندق، لينفتح الحديث على آفاقٍ من المعرفة، حيث التجارب المختلفة، والآراء المتنوعة، وألتقي النواة الرئيسة لـ”مؤسسة حلف الفضول الجديد”، القادمين لحضور اجتماعٍ في الرباط؛ فشاءت الصدفُ أن ألقاهم، ويدور رحى الحوار حول دور الدين كقوة رافعة للسلام، وكيف يمكن العمل بين قيادات روحية مختلفة لتحقيق هدف واحد يصبُ في تكريس احترام الإنسان وحقوقه وكرامته وحفظ السلم الأهلي وصون كيان الدولة الوطنية – المدنية، دون أن تمارس جماعة بشرية إكراهات ثقافية أو دينية تجاه المختلفين عنها! كان الحديث شيقاً مع د.وليام فندلي، وهو الشخصية التي عملت لسنوات طويلة في مجال “الدبلوماسية الدينية”، وتم تعيينه مديراً تنفيذياً لـ”مؤسسة حلف الفضول الجديد”. وهو من خلال النقاشات الصريحة معه يمتلك قدرة عالية على الاستماع، والربط والتحليل، إضافة لما يضفيه من رؤية خاصة على الأفكار. مرة أخرى، خرجنا من جديد من “حي الرياض” ميممين وجوهنا صوبَ “السويسي”، حيث منزل العلامة بن بيه، الذي كان مساحة حميمة ضمت شخصيات من جنسيات وأديان وطوائف متعددة، جرى بينهم تبادل للخبرات والأفكار، قبل أن يدورَ الساقي بأقداح “الأتاي الصحراوي”، تلك “الكيسان” الصغيرة التي تعلوها “الرزة”، وترتشف منها رشفات يسيرة وأنت على المائدة! من يحضرُ تلك النقاشات يعرفُ كيف تبلورت مبادرة “تشكيل فريق للوساطات والمصالحات”، مهمته “التفاعل الحيوي مع الحوادث التي يمكن للدبلوماسية الدينية أن تسهم فيها بدور إيجابي”، التي أعلن عنها في العاصمة الرباط، في 7 آب (أغسطس) الجاري. ويدركُ أن هذه المبادرة ما كانت لتقومَ لولا نص تأسيسي، كان بمثابة المدماك الذي بنيت عليه العديد من الأفكار، ألا وهو “إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي”، الذي أُطلق في مدينة مراكش، في كانون الثاني (يناير) 2016، وتبعته لاحقاً “وثيقة حلف الفضول الجديد”، في كانون الأول (ديسمبر) 2019. إن “إعلان مراكش” الذي جاء نتيجة مبادرة جادة، هي ثمرة تعاون بين دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية، يقود إلى فهم الصلة بين “نقاشات الرباط” التي حضرتُ جزءاً يسيراً منها، والهدف الأساسي الذي يسعى له “منتدى أبو ظبي للسلم” ألا وهو ترسيخ السلمِ وتخفيف التوترات، وحصار الخطابات المتطرفة، وتقديم رؤية تدفع البشرية للعيش المشترك واحترام التعددية الدينية والثقافية. المحطاتُ السابقة، تحملنا على الإضاءة على العمل الجاري في المغرب، من أجل ترشيد الخطاب الديني، وتقديم نموذجٍ متسامح قائم على “روحانية الدين”، بعيداً عن التزمت والتعصب والعنف، ويمكن أن يكون صلة بين أفكارٍ متعددة، تتجاور وتتكامل فيما بينها. هذا الدور، وأبرز أدواته، هو محور المقالةِ القادمة، خصوصاً أنه جرى لقاء جمع وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد توفيق، ووفداً رفيع المستوى من “مؤسسة حلف الفضول الجديد”، وهو لقاء يراد منه التعاون والتفاهم بين المؤسسات المعنية بتطوير وترشيد الخطاب الديني.. وللحديث تتمة!

التعليقات معطلة.