حين استبق ويلز ولادة القنبلة النووية ورحب بها كوسيلة فعالة لمنع الحروب

1

سيد الخيال العلمي يتوقع كارثة هيروشيما “ألم أقل لكم؟”

إبراهيم العريس  باحث وكاتب  

تفجير هيروشيما يعطي الحق لـ”العالم وقد تحرر” (أ ب)

لم يعرفا بعضهما بعضاً من كثب على رغم أنهما عاشا جزءاً من عمريهما في زمن واحد تقريباً، جول فيرن الفرنسي كان في الـ32 من عمره حين ولد هربرت جورج ويلز الإنجليزي، بالتالي كان الأول لا يزال حياً وفي ذروة إبداعه في مجال أدب الخيال العلمي حين راح الثاني يقتفي خطاه جاعلاً من ذلك الأدب جزءاً أساسياً، وإن لم يكن وحيداً، من نشاطه الفكري والروائي، مع فارق أساسي بينهما يكمن في أن فيرن لم يحاول بصورة جدية أن يقارب بين رواياته والعوالم السياسية على رغم أن السياسة كانت في زمنه قد بدأت تختلط بالأدب على أنواعه اختلاطاً تاماً. أما ويلز فكان غائصاً في السياسة متوجهاً ناحية فكر اشتراكي تقدمي على النمط البريطاني. ومن هنا في وقت كان فيه فيرن يشغل مخيلته لإبداع كتب ونصوص مختلفة همها الترفيه عن قرائه، كان ويلز لا يتورع عن جعل رواياته مطية لأفكار ومواقف سياسية تتسم أحياناً بالتطرف وتبدو في أحيان كثيرة وكأنها جرس إنذار ليس لقرائه الكثر فقط، بل للإنسانية جمعاء كما كان يقول.

عريس-3.png

هربرت جورج ويلز (1866 – 1946) (غيتي)

بين الخيال والسياسة

والحقيقة أننا في مجال المقارنة الفنية بين الرجلين يمكننا أن نقول إن من الصعب رسم نوع من تراتبية تفاضلية بينهما مع أرجحية لفيرن في مجال اللجوء إلى المخيلة الخالصة في بناء مواضيعه والخوض في تفاصيلها، بينما لا بد من الإقرار بأن ويلز دنا كثيراً من السياسات والشؤون الاجتماعية في كثير من كتاباته، بل إن بعض تلك الكتابات عومل من قبل كثر من المؤرخين والنقاد كتعبير عن هموم زمنه، وهو الذي كان يستشف أحوال العالم الذي يعيش فيه محاولاً أن يكيف أدبه مع ذلك العالم، في قت كان فيرن يحرص على أن يكيف العالم تبعاً لأفكاره. طبعاً ليس هنا مجال التبحر في مثل هذه الأبعاد التي لا يتوقف الدارسون عن الخوض فيها، ولكن في إمكاننا التوقف عند واحدة من روايات ويلز يجمع الباحثون على أن هذا الأخير قد تجاوز فيها سلفه الكبير ليس فقط في بعدها الفكري “الخطر” كما سوف نرى بعد سطور، بل في بعدها التنبُّئي، حتى وإن كنا نعرف أن الكاتب لم يلجأ هنا إلى خياله الخصب لصياغة حبكتها، بل إلى أشغال علمية كان قد اشتغل عليها قبل ذلك العالم فردريك سودي الذي كان أول مكتشفي الفاعلية المذهلة لتحطيم اليورانيوم.

نحو ردع نووي

وهذا التحطيم بالتحديد، الذي سيكون لاحقاً في أساس التفجير النووي الذي لن تعرفه البشرية، ويثير لديها أشد آيات الرعب هولاً إلا في عام 1946، هو العنوان الذي تحمله، في الأقل، الترجمة الفرنسية لهذا النص الذي يمكن في نهاية المطاف اعتباره رواية مع أنه أقرب إلى الدراسة العلمية المصاغة على شكل روائي. علماً بأن العنوان الإنجليزي الأصلي هو “العالم وقد تحرر”، في وقت صار في الفرنسية كما في بضع ترجمات إلى لغات أخرى “التحطيم المحرر”. ولعلنا لا نستبق الأمور هنا إن نحن سارعنا إلى الإشارة إلى أن العنوان الذي وضعه ويلز بنفسه للكتاب الذي أنجزه في عام 1913 لكنه لن ينشر في طبعته الإنجليزية الأولى إلا بعد ذلك بعام، أي في وقت كان العالم قد بدأ يعيش سخونة الحرب العالمية الأولى، مما جعل للكتاب مبرراته وفائدته الاستباقية أيضاً، لم يكن أفضل العناوين الممكنة. ونقول “الاستباقية” هنا كي لا ننسى الجانب الخيالي في تفكير ويلز، ونعود إليه كأديب، ذلك لأن معظم الحديث سيدور هنا من حوله كعالم مسيس يهتم بالمصير الإنساني. ومن هنا سيكون سؤالنا الأول متعلقاً بأية نزعة إنسانية يمكن تلمسها في كتاب سنكتشف في النهاية أنه يتحدث عن القنبلة النووية نفسها، داعياً إلى تعميم الحصول عليها باعتبارها وسيلة لوقف الحروب ضمن إطار ما يسمى اليوم بـ”الردع النووي”؟

اقرأ المزيد

إجابة مغرية

حسناً الإجابة لدى ويلز سهلة بل مغرية. ولكننا قبل الوصول إليها قد يكون من الأفضل مجانبة الموضوع كما أشرنا، من منطقه الخيالي. فالرواية تتحدث هنا بالاستناد طبعاً إلى أشغال سودي عن تحطيم لليورانيوم يمكن استخدامه خلال حرب ستدور في عام 1956، لا خلال الحرب العالمية الأولى التي كانت على الأبواب، ولا في توقع دقيق يشير إلى ما سيحدث بعد عقود وكختام للحرب العالمية الثانية، من إلقاء الأميركيين قنبلتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان، بل بعد ذلك الحدث الجلل و”الكارثة الإنسانية” التي لم يكن لها سابق في تاريخ البشرية بنحو عقد من الزمن. والحقيقة أنه في الزمن الذي كتب فيه ويلز هذا النص كان بعيداً من إمكانية ولادة القنبلة النووية، لكن صاحب “حرب العالم” و”آلة الزمن” وغيرهما من روايات خيال علمي مدهشة يكاد البعد السياسي فيها يقفز من بين السطور، فكر في ذلك كله ولم يتنبأ به، بل توقعه كـ”حتمية تاريخية” لا بد ستحدث ذات يوم، متفوقاً في ذلك حتى على جول فيرن الذي يمكننا القول إن ما تحقق من خيالاته كان أقرب إلى حتمية مقبلة، بل إن كثيراً من بنات أفكاره الاستباقية ألهمت مخترعيها اللاحقين إلى حد ما.

استفزاز وتفسير منطقي

أما بالنسبة إلى استباقية ويلز في هذا الكتاب فإنها أتت في حقيقة الأمر استفزازية و”لاإنسانية”، ولكن قبل أن يتمكن ويلز من تفسير فكرته، ولكن ما الذي كانت عليه تلك الفكرة؟ ببساطة طالما أن تحطيم ذرات اليورانيوم بات حقيقة حتى وإن كانت لا تزال في بداياتها وتبدو غامضة، على القنبلة النووية أن توجد الآن بالفعل، بل على البشرية أن تسعى إلى تعميم وجودها وتمكين كل البلدان من صنعها وامتلاكها؟ ولكن كان السؤال المرعب الآخر هنا هو: أفلن يؤدي ذلك إلى دمار البشرية في نوع من فعل ورد فعل مقابل؟ كما سوف نشاهد في أيامنا هذه في الأقل في أفلام سينمائية خيالية كفيلم “دكتور سترينجلاف” لستانلي كوبريك، أو في شرائط لا تخلو من رعب كذاك الذي حققته هوليوود عن حيرة الرئيس جون كينيدي خلال أزمة صواريخ كوبا، يوم كان قد خشي أن يؤدي التمادي في العناد من جانبه ومن جانب الروس إلى اندلاع حرب نووية قد يليها دمار البشرية، “بالضبط ذلك هو المطلوب اليوم؟”. كانت تلك هي محاججة ويلز لتفسير دعوته التي يراها إنسانية إلى أبعد حد. ففي سياق تلك المحاججة وانطلاقاً من توقعه ولادة التفجير النووي، لم يتوان ويلز عن الدعوة إلى الردع النووي، لأن امتلاك الأطراف المتخاصمة والمتناحرة ذلك السلاح المدمر سيكون من شأنه أن يمنع طرفاً منهما من استخدامه لأنه يدرك أن الطرف المقابل سوف يستخدمه بدوره من دون تردد إن تعرض لهجوم به.

عريس-2.png

غلاف رواية ويلز في طبعتها الأولى (أمازون)

“ألم أقل لكم؟”

يومها، ومن دون أن يكون ويلز مدركاً حجم الدمار الناجم عن استخدام التفجير النووي عسكرياً، كان يعرف أن ذلك التفجير سوف يكون أخطر ما تعرفه البشرية في تاريخها فكيف نمنع حدوثه؟ بجعله في متناول الجميع، ومن هنا لن تجرؤ أية أمة على اقتراف تلك الجريمة، إذ سيؤدي ذلك إلى تحريك قدرة الأمة المقابلة لفعل مقابل. ومن هنا، ومن دون أن يستخدم ويلز هذا المصطلح الذي نراه يستخدم بصورة يومية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بل ها هو ذا استخدم حتى خلال الآونة الأخيرة حين دفعت العنجهية واحتمال خسارة حربه ضد أوكرانيا وعلى سبيل تخويف الغرب والعالم بأسره، دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التهديد باستخدام الرعب النووي ضد الأوكرانيين، غير حاسب طبعاً واقع أن الغرب يملك بدوره ذلك الردع النووي الشهير الذي رأى فيه ويلز، وقبل قرن من الآن، أنجع ترياق يمنع الحروب بين البشر، ويمنع الأمم الأكثر قوة من أن تفرض سلطانها على الأمم الأضعف شرط أن تملك الأمم الضعيفة سلاحاً نووياً أو تتحالف مع من يملكونه. طبعاً عندما تحدث ويلز (1866 – 1946) كانت الفكرة كلها تبدو خيالية، ولكن في العام الأخير من حياته كان في مقدور هذا الكاتب ذي الخيال الخصب والوعي السياسي أن يقول لمن حوله، وربما على سرير موته “ألم أقل لكم؟”.

التعليقات معطلة.