حين سقط العراق.. كشّر الجوار عن أنيايه

14

 

 

عندما تضعف الدول، يُمتحن جوارها الحقيقي، وتُكشف طبيعة العلاقات التي لطالما رُسمت على أوراق المصالح والميثاق الأخوي. العراق، الذي شهد أوقات ضعف صعبة بعد عام 2003، لم يجد في محيطه الإقليمي الدعم المطلوب، بل تعرض لمحاولات استغلال وتوسع على حساب سيادته ووحدته الوطنية. هذا المقال يحلل كيف تعاملت دول الجوار مع هذا الضعف، مسلطًا الضوء على تأثير ذلك على حاضر العراق ومستقبله، خصوصًا الأجيال القادمة التي ستقود البلاد .

 

حين ضعُف العراق، لم تُبدِ دول جواره تفهماً لجراحه، بل قرأت انهياره فرصةً سانحة لتحقيق مصالحها، دون اعتبار لحجم الألم العراقي، ولا لتداعيات العبث بوطنٍ كان، ولسنوات، صمام أمان المنطقة.

إيران: سلطة فوق السيادة

تجلّت حالة استغلال الضعف العراقي بأوضح صورها في المشروع الإيراني. فمنذ 2003، لم تترك إيران العراق لحظة، بل زرعت فيه نفوذاً عميقاً، عبر وكلاء وأحزاب ومؤسسات ظلّ. فرضت طهران رؤيتها على القرار السيادي، وتغلغلت في الاقتصاد، والثقافة، والتعليم الديني، حتى بات العراق، عمليًا، جزءًا من “حديقة خلفية” لإيران. لقد استخدمت طهران خطاب الطائفة، لتقييد العراق داخل دائرة صراع إقليمي مزمن، ما شوّه هويته الوطنية، وقسم مجتمعه، ومهّد لانفجار اجتماعي طويل الأمد .

 

الكويت: الذاكرة المرهونة بالحدود

أما الكويت، التي يفترض بها أن تكون الشقيق الجنوبي الأقرب، فقد رسخت في وجدان العراقيين معاني الجرح والسيادة المنقوصة. لم تكتفِ بالحسابات السياسية أو القانونية بشأن الغزو العراقي لها عام 1990، بل ذهبت بعيداً باستثمار لحظة الانهيار العراقي بعد 2003. اتفاقيات الحدود، ومنها ما جرى في “خيمة صفوان” ثم لاحقاً في ملف خور عبد الله، تعزز شعوراً عراقياً عميقاً بأن الكويت اختارت أن تبني أمنها ومكانتها على حساب العراق، لا بجانبه. التاريخ لن يتحدث عن الخوف الكويتي فقط، بل عن الاستقواء على جار جريح، وتثبيت واقع حدودي عبر قرارات ما كان للعراق الضعيف أن يقبل بها لو كان واقفاً على قدميه.

 

تركيا: بين الماء والتمدد العسكري

انتهجت تركيا سياسة ناعمة في خطابها، لكنها شديدة الوضوح في مصالحها. من المياه إلى التوغل العسكري شمالاً، مارست أنقرة سياسة أمر واقع، مستغلة الانقسام الداخلي، والضعف المؤسساتي في العراق، لتثبيت نفوذها باسم محاربة “العمال الكردستاني”. كما استخدمت مشاريعها الاقتصادية كورقة ضغط مستمرة، دون أي التزام فعلي بشراكة استراتيجية متوازنة .

 

الخليج: عودة بطيئة ومشروطة

الخليج – وخاصة السعودية – تعامل مع العراق بوصفه ساحة مؤقتة، لا شريكًا دائمًا. غابت المواقف الداعمة عند السقوط، وترددت العودة في لحظات الاستقرار النسبي. وفي لحظة الصراع الإقليمي مع إيران، بدأ العراق يُستدعى من بوابة التوازنات، لا بوابة الأخوة. إن هذا السلوك لم يُؤسس لثقة طويلة الأمد، بل عزز الشعور بأن العلاقات تحكمها مصالح عابرة، لا روابط شعبية راسخة.

 

سوريا والأردن: محيط الضرورة

مع سوريا، دخل العراق في علاقة ملتبسة، فكانت معبراً للمسلحين حيناً، وملاذاً لعلاقات استخبارية متشابكة حيناً آخر. أما الأردن، فكان الأقرب وجدانياً، لكنه اكتفى بدور الحارس التجاري والوسيط الاقتصادي، دون تقديم رؤية سياسية داعمة للعراق كدولة مستقلة ذات مشروع إقليمي.

 

التاريخ لا يرحم، والأجيال لا تنسى

إن ما فعلته دول الجوار حينما ضعف العراق لن يُمحى من ذاكرة شعبه، ولن يُهمل في أدبيات نُخبه القادمة. جيل جديد من العراقيين يتكوّن اليوم، حاملاً مرارة التجربة، وراصداً من أساء التصرف حين سقطت الدولة، ومن تآمر، ومن خذل، ومن تواطأ. هذا الجيل – في لحظة نهوض وطني قادمة – لن يُكرّر السذاجة، ولن يفتح بابه بسهولة، وسيتعامل مع الجغرافيا السياسية لا بوصفها أقداراً، بل بصفتها اختبارات أخلاقية خاضعة للذاكرة والتاريخ .

التاريخ لسان لا يرحم، لكنه أيضاً ضميرٌ حيّ تتوارثه الأمم .

التعليقات معطلة.