خاص| الوفيات تتصاعد والتحذيرات تتكرر “دون حلول”.. هل تتحول سجون العراق إلى مقابر صامتة؟

3

تفتح مشاهد الموت المتكررة داخل السجون العراقية باباً واسعاً للأسئلة التي تتجاوز حدود القضايا الفردية إلى أزمة أعمق تمسّ مفهوم العدالة ذاته، فبين شهري كانون الثاني ونيسان من عام 2025، رُصدت تسع وفيات على الأقل بين النزلاء والموقوفين داخل مراكز الاحتجاز العراقية، وفق مادة توثيقية أُعدت من مصادر محلية ودولية.
ورغم أن الجهات الرسمية – من وزارتي الداخلية والعدل – حاولت تقديم تلك الحوادث على أنها حالات متفرقة ناجمة عن تدهور صحي أو عنف عرضي أو اكتظاظ، إلا أن النمط المتكرر للوقائع يكشف صورة أكثر قتامة بالنسبة لمراقبين، وهي “منظومة اعتقال تغيب عنها الرقابة، ومحاكمات تُبنى على اعترافات مشكوك في صحتها، وأحكام قاسية – بينها الإعدام – تصدر في ظل شبهات واسعة بالتعذيب وسوء المعاملة”.
وفاة المهندس بشير خالد لطيف.. الشرارة التي أعادت الملف للواجهة
في مطلع نيسان 2025، استيقظ الرأي العام العراقي على خبر وفاة المهندس بشير خالد لطيف أثناء احتجازه في أحد مراكز التوقيف ببغداد، لم تكن الحادثة الأولى من نوعها، لكنها كانت الأكثر وقعاً بسبب مكانة الضحية الاجتماعية، وما رافقها من شهادات عن تعرضه للضرب المبرح قبل نقله إلى المستشفى حيث فارق الحياة في 7 نيسان.
الأمم المتحدة، عبر بعثتها في العراق (يونامي)، سارعت إلى إعلان متابعتها الدقيقة للحادثة، مطالبة الحكومة بإجراء تحقيق “مستقل وشفاف” يكشف ملابسات الوفاة، غير أن بيان البعثة الأممية لم يكن سوى بداية لتساؤلات أوسع حول نمط التعامل الأمني مع الموقوفين، وغياب آليات المساءلة، وحقيقة ما يجري وراء جدران المؤسسات الإصلاحية التي تحولت في أذهان العراقيين إلى أماكن للخوف لا للإصلاح.
فوفاة بشير لم تحلّ باعتبارها حادثاً عابراً، بل فتحت ملفات كثيرة تتعلق بالتعذيب، والإهمال الصحي، والتواطؤ في التحقيقات. ومنذ ذلك التاريخ، أخذت منظمات المجتمع المدني تعيد طرح السؤال المؤلم: كم من السجناء يموتون بصمت دون أن تُكتب قصصهم؟
تكشف متابعة الحوادث عن نمط متكرر لا يمكن اعتباره مصادفة، ففي محافظات بغداد، البصرة، ديالى، وبابل وغيرها، تتوزع حالات الوفاة بين سجون مركزية ومراكز توقيف مؤقتة، فبعض النزلاء قضوا تحت التعذيب المباشر أثناء التحقيق، وآخرون بسبب الإهمال الصحي، فيما سجلت حالات “مشاجرات غامضة” لم يُكشف عن تفاصيلها، غالباً ما تُغلق ملفاتها دون محاسبة.
التقارير الحقوقية المحلية والدولية تجمع على أن هذه الحوادث ليست معزولة، بل هي نتيجة تراكمات في نظام قضائي وأمني يعتمد القوة أكثر مما يعتمد القانون، ويُبقي السجون خارج دائرة الرقابة الفاعلة.
في هذا السياق، تؤكد منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش أن التعذيب أثناء التحقيق ما زال ممارسة واسعة الانتشار في العراق، وأن السلطات غالباً ما تتجاهل شكاوى المعتقلين وتقارير الأطباء الشرعيين، لتبني الأحكام القضائية على اعترافات انتُزعت تحت الألم.
وبهذا الصدد، صرّح المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة، ناجي حرج في أكثر من مناسبة بأن النظام القضائي العراقي يرسّخ ظاهرة الاعتماد على الاعترافات المنتزعة قسراً كأساس للإدانة، خصوصاً في قضايا “الإرهاب”.
وأوضح حرج، أن “المركز وثّق مئات الشكاوى التي تتعلق بتعذيب جسدي ونفسي داخل مراكز الاحتجاز، وأن هذه الاعترافات، رغم بطلانها القانوني، تُستخدم أمام المحاكم لتبرير أحكام تصل إلى الإعدام أو المؤبد، دون أن تُفتح تحقيقات جادة في مزاعم التعذيب”.
أما تقارير هيومن رايتس ووتش ومنظمات أخرى فقد قدّمت بُعداً عددياً للقضية، مشيرة إلى تزايد وتيرة تنفيذ أحكام الإعدام في السنوات الأخيرة، وإلى أن أغلبها جرى في ظل غياب الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة.
من كركوك إلى الناصرية.. شواهد على الانتهاك
لم تكن الادعاءات الحقوقية نظرية، فحادثة حسن الطائي عام 2021 التي وثقها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في كركوك، شكّلت مثالاً فاضحاً على التعذيب الممنهج.
الطائي الشاب الذي اعتُقل على ذمة تحقيق أمني، تعرض لصعق بالكهرباء وخنق وتعليق حتى أصيب بحروق خطيرة أدت إلى بتر كف يده لاحقاً، ورغم توثيق حالته من جهات طبية وحقوقية، لم تُتخذ أي إجراءات قضائية بحق المتورطين.
هذه القصة ليست استثناء، بل واحدة من عشرات القصص التي تنتهي عادة إما بتسوية عشائرية أو بصمت رسمي يُخفي معالم الجريمة.
وفي آب 2025، تكررت المأساة في رواية جديدة عندما تداولت جهات إعلامية خبراً عن حريق داخل سجن الناصرية المركزي (الحوت) أدى إلى مقتل 27 سجيناً.
ووصفت هيئة علماء المسلمين الحادثة بأنها “جريمة إبادة جماعية” وطالبت بتحقيق دولي عاجل، بينما نفت وزارة العدل وقوع الحريق واعتبرت الأنباء “مفبركة”.
تضارب الروايات بين الحكومة والجهات الحقوقية جعل التحقق من الحقيقة شبه مستحيل، لكنه أعاد تسليط الضوء على تاريخ هذا السجن الذي يوصف بأنه الأكثر قسوة في العراق.
إما سجن الحوت، فقد افتتح عام 2008 بعد إغلاق سجن أبو غريب الشهير، ليكون مركزاً لاحتجاز المدانين بقضايا الإرهاب.
ومنذ ذلك الحين، تراكمت التقارير عن إعدامات ووفيات غامضة داخل جدرانه، حتى أكدت منظمات محلية ودولية أن “السجن يعاني من اكتظاظ شديد وأنه يُؤوي أعداداً تفوق طاقته التصميمية بأضعاف”.
وتشير بعض التقديرات إلى أن السجن – رغم أنه مصمم لاستيعاب بضعة آلاف – قد يضم عشرات الآلاف في وقت واحد، فيما تفتقر الزنازين إلى التهوية والرعاية الطبية، ويُسجّل داخله معدلات مرتفعة من الأمراض الجلدية والتنفسية.
هذا الاكتظاظ لا يعني فقط سوء إدارة، بل “يعكس أزمة بنيوية في السياسة العقابية العراقية التي تعتمد الاعتقال كأداة ردع أولى، في مقابل غياب برامج التأهيل والإصلاح”، وفق منظمات دولية.
كما تشير تقارير منظمات حقوق الإنسان إلى أن نحو ثمانية آلاف سجين يواجهون أحكام إعدام في العراق، فيما تستمر عمليات التنفيذ بوتيرة متصاعدة منذ عام 2023، ففي نيسان 2024 وحده، تم تنفيذ الإعدام بحق 13 شخصاً في سجن الناصرية، بحسب توثيقات محلية.
وتتحدث منظمات أخرى عن تنفيذ “دفعات سرية” من الإعدامات دون إخطار العائلات أو المحامين، وهو ما اعتبرته مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان خرقاً صريحاً للقانون الدولي وقد يرقى إلى مستوى “جرائم ضد الإنسانية” إذا ثبت أنه ممارسة ممنهجة.
وتعزو الجهات الرسمية ذلك إلى تراكم ملفات الإرهاب، بينما ترى المنظمات الحقوقية أن الإعدامات تحولت إلى أداة سياسية لطمأنة الرأي العام الداخلي أكثر من كونها تطبيقاً للعدالة.
أزمة الاكتظاظ والرعاية الصحية
في تقارير رسمية صدرت عام 2025، أعلنت وزارة العدل أن السجون العراقية تؤوي أكثر من 65 ألف نزيل في 31 مرفقاً إصلاحياً، رغم أن طاقتها الأصلية لا تتجاوز 32,500 سجين، ويعني هذا أن معظم السجون تعمل بنسبة استغلال تفوق 200% من طاقتها، وهو ما أدى إلى تفشي الأمراض ونقص الرعاية الطبية وارتفاع معدل الوفيات.
ولمعالجة هذا الضغط، أصدرت الحكومة قانون عفو عام شمل عشرات الآلاف من السجناء، وحتى منتصف أيار 2025، تم الإفراج عن أكثر من 19 ألف نزيل ضمن هذا القانون، ورغم ذلك يرى خبراء حقوق الإنسان أن “العفو رغم ضرورته، لا يواجه جذور الأزمة المتمثلة في ضعف البنية التحتية للسجون واستمرار الاعتقالات العشوائية وتضارب صلاحيات الأجهزة الأمنية”.
بالمقابل، تجمع التقارير الحقوقية على أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء تكرار وفيات السجناء، أولها الاعترافات القسرية التي تُنتزع تحت التعذيب في قضايا الإرهاب ما يؤدي إلى أحكام متسرعة دون تدقيق قضائي كافٍ، وثانيها الاكتظاظ والإهمال الصحي الناتج عن نقص التمويل والكوادر الطبية، مما يجعل الأمراض البسيطة مميتة، وثالثها النفوذ المسلح داخل بعض السجون، حيث تتحدث تقارير عن وجود جماعات خارجة عن سلطة الدولة تمارس نفوذها في إدارة بعض المرافق أو في التحقيقات، الأمر الذي يعقد أي محاولة لإجراء تحقيقات مستقلة.
ورغم نفي الحكومة لتلك الاتهامات، فإن غياب الشفافية واستمرار الحوادث يغذي الشكوك أكثر مما يبددها.
وفي ظل تضارب الأرقام، يصعب تحديد الحقيقة المطلقة، فبينما تشير بعض التقارير إلى وجود 40 ألف سجين في سجن الحوت وأكثر من 3500 حكم إعدام بانتظار المصادقة، تؤكد مصادر رسمية ودولية أن هذه الأرقام أقل من ذلك، ولهذا فأن غياب قاعدة بيانات علنية للسجون، ومنع المنظمات المستقلة من الوصول الميداني، يجعل أي إحصاء تقديرياً لا قطعياً.
بدورها، تطالب منظمات حقوق الإنسان داخل العراق وخارجه بإجراءات فورية، في مقدمتها: تجميد تنفيذ أحكام الإعدام إلى حين مراجعة جميع القضايا المشكوك فيها، وفتح تحقيقات مستقلة في وفيات السجناء ومزاعم التعذيب، والسماح للجان الدولية بزيارة السجون والاطلاع على أوضاع النزلاء، وأيضاً إصلاح القضاء لضمان عدم استخدام الاعترافات المنتزعة بالإكراه كأدلة إدانة.
ويحذر خبراء الأمم المتحدة من أن استمرار الإعدامات على هذا النحو قد يُصنف كجريمة ضد الإنسانية إذا ثبتت منهجيته.

التعليقات معطلة.