كأن العراق كتب عليه أن يكون ساحةً للآهات، مسرحًا للأحزان، وأن يمضي عمره بين أنياب الطامعين ومخالب الخيانات. وطنٌ كلما ظن أنه تخلص من جرح، انفتح فيه جرحٌ آخر أعمق، حتى صار جسده خريطةً من الندوب، وروحه ثكلى لا تجد من يرثيها.
العراق… ذلك الاسم الذي كان يومًا يعني المجد والحضارة، صار عنوانًا للفجيعة والموت المجاني. لم يعد الوطن بيتًا يؤوي أبناءه، بل مقصلةً تتدلى منها أعناق الحالمين. كم من أحلامٍ دفنت تحت أنقاض الحروب، وكم من قلوبٍ اغتيلت قبل أن تنبض بالأمل؟
في شوارعه، تتحدث الأرصفة عن الذين مرّوا هنا، عن الذين حلموا بوطنٍ يحتضنهم، فانتهوا في المقابر الجماعية أو غرقوا في بحار المنافي. في أنهاره، يجري الماء ممتزجًا بدماء الذين آمنوا أن الوطن أكثر من خريطة، فخانهم الوطن وسلّمهم لموتٍ لم يختاروه.
في العراق، كل شيء يبكي: الشجر يبكي جذوره المقتلعة، والمآذن تبكي أرواح المصلّين الذين سقطوا سجودًا، والأمهات يبكين أبناءً لم يعودوا، والأطفال يبكون آباءً لم يغادروا إلا إلى ظلمة القبور. حتى التراب هنا، يحفظ ذاكرة الخطوات الأخيرة للراحلين الذين لم يقولوا وداعًا.
كم من صرخةٍ أُطلقت في الظلام ولم تجد من يسمعها؟ كم من جسدٍ صار طُعمًا للنسيان؟ كم من عينٍ سهرت على حلمٍ لا يأتي؟ العراق لم يعد أرضًا، بل جرحًا مفتوحًا في قلب الزمن، مأساةً بلا نهاية، دمعةً تأبى أن تجف.
ورغم هذا… ما زال هناك من يتمسك بحلمه، كأن الحب في هذا الوطن لعنة لا شفاء منها. كأن العراق، رغم كل شيء، يستحق أن نحبه حتى الموت.