السومرية نيوز
تمثل حرب الجواسيس بين روسيا وأمريكا كتاباً متعدد الفصول، تحمل قصصه كثيراً من التفاصيل الغريبة، فما تفاصيل قصة سيرغي تشريكاسوف، الذي يقبع في سجن برازيلي؟
وألقى تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية، الضوء على تفاصيل قصة حياة الجاسوس، الذي عاش أكثر من عقد باسم فيكتور مولر فيريرا، وهو طالب برازيلي لديه اهتمام كبير بالشؤون الدولية ويحب الرقص.
وعلى الرغم من أن تشريكاسوف ليس فيكتور بوت، فإن تفاصيل حياته والمهمة التي كان يُفترض أن ينفذها لكنها أدت إلى كشف تنكره، إضافة إلى احتمال دخوله في صفقة لتبادل “الجواسيس المفترضين” بين روسيا وأمريكا، ربما لا تقل أهمية عن قصة بوت، تاجر الأسلحة الروسي الذي يلقب بتاجر الموت.
من هو “الجاسوس” تشريكاسيوف؟
في العام الماضي، عندما سافر فيكتور مولر فيريرا إلى هولندا لبدء فترة تدريب بالمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، رفضت السلطات الهولندية دخوله إلى البلاد واتهمته بأنه جاسوس روسي.
وقالت السلطات الهولندية إنه ليس طالباً برازيلياً، لكنه في الحقيقة يدعى سيرغي فلاديميروفيتش تشيركاسوف، وهو ضابط روسي يبلغ من العمر 36 عاماً، يعمل متخفياً مع وكالة المخابرات العسكرية الروسية.
عاد الجاسوس الروسي المزعوم الآن إلى البرازيل، حيث يقضي عقوبة بالسجن لمدة 15 عاماً بتهمة الاحتيال في المستندات المتعلقة بهويته المزيفة. وضغطت السلطات في الولايات المتحدة لتسليمه إليها، مشيرة إلى أنه درس بواشنطن في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز.
وفي الولايات المتحدة، سيواجه تشيركاسوف اتهامات بأنه عميل أجنبي “غير قانوني”، إضافة إلى عدة تهم تتعلق بالاحتيال المصرفي وتحويلات غير مشروعة وتزوير تأشيرات. وسيُحكم عليه بالسجن لفترات طويلة.
لكن قد يُستخدَم أيضاً في صفقة تبادل أسرى محتملة مع روسيا، حيث أُلقِي القبض على مواطنين أمريكيين؛ مثل الصحفي إيفان غيرشكوفيتش وجندي مشاة البحرية السابق بول ويلان، بتهم التجسس، التي نفاها الرجلان بشدة، ووصفها مسؤولون أمريكيون بأنها ذات دوافع سياسية.
كانت شبكة “سي إن إن” قد كشفت، خلال أواخر يوليو/تموز 2022، عن عرض البيت الأبيض للإفراج عن فيكتور بوت، مقابل إطلاق سراح أمريكيين اثنين تحتجزهما روسيا، هما بريتني غرينر وبول ويلان.
لكن الصفقة لم تتم حتى الآن، ويقبع بوت الملقب بـ”تاجر الموت” ويتحدث 6 لغات على الأقل، في وحدة خاصة داخل سجن ماريون الفيدرالي بولاية إلينوي، حيث يقضي حكماً مدته 25 عاماً، حسب تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
وحسب الصحيفة الأمريكية، يعتبر الروسي فيكتور بوت، البالغ من العمر 56 عاماً، أشهر تجار الأسلحة في العالم، ويهتم بتحقيق الربح من عملياته التي أجَّجت الصراعات في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.
ماذا تقول روسيا عن “الجاسوس”؟
من جانبها، نفت روسيا أنَّ تشيركاسوف جاسوس، لكنها زعمت أنه مطلوب لارتكاب جرائم في روسيا وتسعى إلى تسلُّمه من البرازيل.
ووفقاً لملفات المحكمة البرازيلية، أُصدِرَت شهادة ميلاد بديلة باسم فيريرا في عام 2009. وفي العام التالي، دخل تشيركاسوف إلى البرازيل. ويبدو أنَّ تلك الوثائق البرازيلية المزورة استفادت من المعايير المتساهلة في حفظ السجلات البرازيلية، وفقاً لتقرير من صحيفة The Washington Post. ووضعوا في خانة الوالدة اسم امرأة برازيلية تُوفِيَت في عام 1993، جوراسي إليزا فيريرا، التي أخبر أقاربها The Washington Post بأنه لم يكن لديها أطفال.
وبمجرد وصوله إلى البلاد، تمسك الشاب “فيريرا” بقصة حياة خيالية متقنة صوّرته وهو يتغلب على الصعاب الهائلة ليصبح طالباً مهتماً بالشؤون العالمية. وعُثِر بحوزة تشيركاسوف على وثيقة من 4 صفحات عند اعتقاله، قالت السلطات الهولندية إنها كُتِبَت، على الأرجح لمساعدته في حفظ تفاصيل قصته المزيفة للتغطية على هويته الحقيقية، وتضمنت أوصافاً طويلة لتاريخ عائلي معقد وتفاصيل حياتية حول الإعجاب بمعلمين في مدرسته، وملهاه الليلي المفضل لموسيقى الترانس في برازيليا.
ثم توجه لدراسة العلوم السياسية في ترينيتي دبلن، إحدى أفضل الجامعات بأيرلندا، قبل الالتحاق ببرنامج الدراسات العليا في جامعة Johns Hopkins بواشنطن، حيث تخرج في ربيع عام 2020 بعد عامين من دراسة “السياسة الخارجية الأمريكية”.
وفي النهاية، حصل على تدريب غير مدفوع الأجر لمدة 6 أشهر مع المحكمة الجنائية الدولية، وهي أعلى محكمة دولية لحل مزاعم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب الأخرى.
وبعد اجتياز الفحص الأمني من المحكمة الجنائية الدولية، رتب “فيريرا” للسفر إلى أمستردام في 31 مارس/آذار 2022. لكن استوقفه المسؤولون الهولنديون على الحدود واستجوبوه واستنتجوا هويته الحقيقية وأعادوه إلى البرازيل، حيث اعتُقِل.
لماذا تريد أمريكا وضع يدها عليه؟
وفقاً لتقرير من صحيفة The Washington Post، لاحظ المسؤولون الهولنديون اتصالات من السفارة الروسية في البلاد حول عميل جديد “غير قانوني” قادم إلى هولندا. واتصل المسؤولون لاحقاً بمكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، الذي أرسل كمية كبيرة من المعلومات التي جمعها بالفعل حول تشيركاسوف.
ويشير “غير قانوني” في هذه الحالة إلى نوع من العملاء الذين يعملون دون أية صلة معروفة بحكومتهم الأم وبدون الغطاء الدبلوماسي المستخدم في معظم عمليات التجسس الحديثة.
ويُزعَم أنَّ تشيركاسوف كان يعمل لصالح المخابرات العسكرية الروسية. وعلى الرغم من أنها أقل شهرة من لجنة أمن الدولة (الاستخبارات السوفييتية) وخليفتها جهاز الأمن الفيدرالي للاتحاد السوفييتي، فقد اكتسبت المخابرات العسكرية الروسية سمعة بتنفيذ عمليات دولية محفوفة بالمخاطر في السنوات الأخيرة؛ مثل الاغتيال الفاشل للمنشق الروسي والجاسوس السابق سيرغي سكريبال بإنجلترا في عام 2018.
وبعد تفنيد أسطورة “فيريرا”، وُجِد أنَّ تشيركاسوف لم يُولَد في البرازيل لكن في كالينينغراد، الجيب الروسي بأوروبا. وعمره الحقيقي أكبر بثلاث سنوات من هويته البرازيلية المزيفة المزعومة وظل على اتصال مع الأشخاص الذين يعرفون أسراره، ومن ضمنهم المسؤولون الروس عن توجيه أنشطته الجاسوسية وشركاؤه العاطفيون في الوطن.
لو كان تشيركاسوف قد تمكّن من الوصول إلى المحكمة الجنائية الدولية، لاستطاع العثور على معلومات حول تحقيقات المحكمة في مزاعم جرائم الحرب الروسية بأوكرانيا وربما اختراق نظام الكمبيوتر المحمي بجدار حماية.
وعقب اعتقاله بالبرازيل، أنكر تشيركاسوف في البداية أنه جاسوس روسي وتمسك بدلاً من ذلك بقصة “فيريرا”. لكن بمجرد العثور على الثغرات في القصة، كان من الصعب إصلاحها، فقد استخدمت السلطات الهولندية برامج التعرف على الوجه للعثور على صور له في كالينينغراد.
زعمت روسيا أنَّ تشيركاسوف مُهرِّب هيروين مطلوب فر من روسيا لتجنب السجن وأنها تسعى لتسلُّمه. وأيّد الجاسوس المزعوم هذه القصة أيضاً، على الرغم من أنها تحمل معها عقوبة أطول مما يقضيها الآن وأيضاً في نظام سجن أسوأ سمعة.
درس تشيركاسوف في واشنطن لمدة عامين؛ مما أثار تساؤلات كبيرة حول ماهية المعلومات التي ربما يكون قد حصل عليها أثناء وجوده في الولايات المتحدة وكيف حصل عليها.
قد تكون هناك مخاوف أيضاً بشأن سجنه في البرازيل، فقد أعطت المحكمة البرازيلية العليا موافقة مبدئية على طلب تسليم روسيا، على الرغم من أنَّ أية عملية من هذا القبيل يجب أن تنتظر حتى الانتهاء من تحقيق إضافي في تهم التجسس الموجهة ضد تشيركاسوف.
وبالنسبة للولايات المتحدة، هناك أيضاً مخاوف كبيرة بشأن احتجاز المواطنين الأمريكيين في روسيا؛ حيث أدين غيرشكوفيتش، مراسل صحيفة The Wall Street Journal في موسكو، بتهمة التجسس الشهر الماضي، ويقضي ويلان عقوبة بالسجن لمدة 16 عاماً في سجن روسي، بعد إدانته بالتجسس في عام 2020.